مجلة البعث الأسبوعية

الأخلاق عند أهل الأدب… المعري مثالاً..

البعث الأسبوعية- تمّام بركات

لا يمكن الحديث عن اجتماع للشعر والفلسفة عند أهل الأدب العربي، إلا ويحضر طيف الشاعر والمفكر “أبو العلاء المعري”-973-1058-كواحد من أهم الشعراء العرب، الذين رفعوا لواء التفكير الفلسفي في عوالمهم الشعرية، وكانوا من الأمثلة الناصعة في التاريخ العربي، بل والعالمي، على كونه من الذين التصقت فلسفتهم الفكرية بنتاجهم الأدبي التصاقا وثيقا، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على كونه تمتع بصفات أخلاقية وجدانية صافية، استطاع أن ينقلها من دواخله إلى شعره، ومن شعره إلى الناس الذين حفظوا قصائده، وجعلوا من أكثرها بمثابة جرس أخلاقي، يدقوه كلما احتاجوا إلى مثال ناصع الدلالة على هذا.

يقول رهين المحبسين:

الناسُ مِثلُ الماءِ تَضرُبُهُ الصَبا

فَيَكونُ مِنهُ تَفَرُّقٌ وَتَأَلُّفُ

وَالخَيرُ يَفعَلُهُ الكَريمُ بِطَبعِهِ

وَإِذا اللَئيمُ سَخا فَذاكَ تَكَلُّفُ

عُرف عن “أبو العلاء المعري” تمتعه بحس أخلاقي صاف وعميق، لقد انطوى في قرارة نفسه على الفضيلة والخير، انطواء عميقا وصادقا، وغير قابل للانحدار باتجاه الرزائل والشرور، أغلب الظن أنه تشرب هذه الميزات الأخلاقية عن والديه، فهو ينتمي إلى عائلة كريمة، اشتهرت بحب الفضيلة والعلم، هذا بالإضافة إلى استعداده الذاتي للعلم والإقبال عليه، ومن ثم التحلي بالقيم التي يغرسها في النفس، ومما عرف عنه أيضا تأثره ودراسته الفيلسوف اليوناني “سقراط” -399-ق م- الفيلسوف اليوناني الشهير بميله إلى الحياة الفاضلة الزاهدة، وتحريه عن الحقائق ذات الطبيعة الأخلاقية، ثم ربطها بالعقلانية، ومن ثم ربط العقلاني بالأخلاقي، وهذا ما مكنه من محاورة السفسطائيين، وإبطال تنظيراتهم الفكرية النسبية، وما جرى في ذلك من تفضيلهم للدوافع البشرية على كونها السابقة على النواحي الأخلاقية، المناظرات التي لا بد وأنها تركت أثرها الحاسم، في دواخل شاعرنا، فها هو في قصيدته التي رثى فيها والده، يورد فيه تلك الصفات التي تنطوي على العقلانية الأخلاقية، معليا من شأن الشجاعة والعدالة والاعتدال في شخصه، قائلا:

أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل

رماح المنايا قادرات على الطعن

مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى

وسهد المنى والجيب والذيل والردن

حجى زاده من جرأة وسماحة

وبعض الحجى داع إلى البخل والجبن

إلا أنه طور في “فخرياته” نزوعا أرستقراطيا إراديا، تفرعت عنه العديد من القيم والفضائل، كما أنه في لزومياته أظهر ذهنية انتقادية عظيمة الشأن، وهو ما يعطي انطباعا بكونه قد تجاوز والده الفلسفي “سقراط” الذي كان قد أعلن أنه كافح ذاتيا كي يضبط نفسه، وأن اتصافه بالرزانة والاتزان، انقلب في أحيان معينة إلى غضب طائش وغريب تماما، وكشف ما يوحي أن المشروع الزهدي في داخله عانى انهيارات وكشف نواقص تعتريه، أكثر مما تعتري الفيلسوف ذاته، فلم يخبر أو يحدث أي كتاب أو وثيقة عن المعري، بأنه عانى من نوبات الغضب الجامح، كتلك التي عانى منها سقراط!

يقول:

أَرى اِبنَ آدَمَ قَضّى عَيشَةً عَجَباً

إِن لَم يَرُح خاسِراً مِنها فَما رَبِحا

فَإِن قَدَرتَ فَلا تَفعَل سِوى حَسَنٍ

بينَ الأَنامِ وَجانِب كُلَّ ما قُبِحا

والهام هنا، والذي لا يرد ذكره إلا قليلا عند من يقبلون دراسة على شعره، أن المعري بدأ حياته المعرفية باكتساب صفات أخلاقية، تشربها في داره وبين أهله المعروفين بترفعهم الأخلاقي وسموهم الفكري، الأمر الذي ظهر جليا في نتاجه الأدبي، وفي حياته الاجتماعية معا، وهذا ما ميزه عن كثر غيره من أهل الأدب والشعر، فشاعرنا لم ينزلق باتجاه الرزائل، وما من دليل لا حسي ولا مادي، على كونه من الرجال الذين بذلوا جهودا نفسية إضافية-أو ما يُعرف بـ: “جهاد النفس”، كي يكتسبوا الفضيلة أو يتوحدوا معها، أو بأنه عانى من صراع ذي طبيعة أخلاقية -وهو الصراع الذي يدل عادة على أن النموذج البشري، يعاني من أزمة أخلاقية- ويود أن يتخلص من القيم الدنيوية الباطلة، واستبدال القيم الأخلاقية السامية بها، من مثل الصراع الذي عانى منه كتّاب ومفكرون مثل: “جان جاك روسو- 1712” الصراع الذي اعتبره “ميخائيل نعيمة-1889-1988- الشاعر والكاتب اللبناني الصوفي، شأنا طبيعيا في قصيدة “العراك”:

دخل الشيطان قلبي فرأى ملاك

وبلمح الطرف ما بينهما اشتد العراك

ذا يقول البيت بيتي! فيعيد القول ذاك

وأنا أشهد ما يجري ولا أبدي حراك

سائلا ربي في الأكوان من لي سواك؟

وفي الواقع فأن طبيعة “العراك” أو “الصراع” الداخلي، تبدو هاهنا وكأنها على علاقة وثيقة بالمفهوم الصوفي لهذا الأمر، من التخلي إلى التحلي، فالتجلي، وغيرها من الاختبارات الإشراقية المتقدمة، وعلى الرغم من أن أبو العلاء عاش حياة زاهدة كما هو معروف عنه، إلا أنه انفصل عن مكنوناتها، فـ “المفكر” بشكل عام، وفي الأزمنة كلها تقريبا، وفق الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه-1844-تعلق بالمثال الزهدي، لأنه يؤمن له القدرة على التفكير الحر، ولم يستطع أن يفصل بين مكنونات “المثال الزهدي” وبين مكنوناته، وهو ما استطاع كل من المعري ونيتشه، القيام به، وفي فلسفة المعري، فإنه ما من ضرورة تدعو لفكرة الوصول إلى الفضيلة وكيفياتها، فالفيلسوف الروماني-الرواقي “لوشيوس أنايوس سينيكا-65 ق م” يعتبر أن السعي إليها ومن ثم الوصول لها واكتسابها، ليس بالأمر العسير، الأمر الذي يؤكده المفكر الفرنسي “الشكوكي” “ميشيل إكويم دو مونتيني-1952” الذي تبنى بعد دراساته الفكرية المعمقة، الاتجاهات الرواقية، الابيقورية، الشكوكية، الإنسانية في الوقت ذاته، وها هو الشاعر اليوناني القديم “هيزيود” يرى بأن اكتساب الفضيلة ليس بالشأن الهين ابدا، ولا بد من بذل مجهودات، تترافق بالمشقة قصد إدراكها والانطواء عليها، أي نيلها حقا، وهو الذي عاين وفق تقديراته، العصر الذي انتشرت فيه الرزيلة والانحطاط الأخلاقي، وما من قيمة لمثل هذه التنظيرات عندما يتم التطرق إلى المعري وفلسفته، فصاحب “رسالة الغفران” نشأ وشبّ باعتباره ذلك النموذج الفاضل، ومن ثم فإن فكرة الوصول إلى الفضيلة وكيفية اكتسابها، لم تكن مما يعنيه، ولم يكن بإمكان أي كان، أن يدعوه إليها، وفي السياق ذاته، فإن فكرة التورط في الرزيلة، تورطا أثما، والانتقال منها كحالة، إلى حالة الفضيلة، باعتبار أنها الطريق التي لا بد من عبورها، إذا ما المرء أراد بلوغ الفضيلة، واكتسابها كفكرة ومنهج، هي أبعد ما يكون عن فكر “المعري” وطبيعته، ومثل هذه الظاهرة يمكن رصدها عند العديد من الأدباء العالميين، مثل الإيرلندي “أوسكار وايلد-1854-1900” الذي يمكن اعتباره مثالاً على الأدباء، الذين سلكوا درب الرزيلة للوصول إلى الفضيلة، ومما لاشك فيه يمكن أيضا اعتبار الشاعر الفرنسي الرمزي “شارل بودلير-1821-1867” -الذي يعتبر أن الشر واقعا قائما، وأما الخير، فإمكانية، لكنها بعيدة المنال- من الأدباء الذين سلكوا ابتداء بالفضيلة إلى الرزيلة، على الرغم من اختياره الوجداني، لحالة السمو الأخلاقي الروحي، في مقطوعات شعرية مأثورة عنه.

الأخلاق والفضيلة، وفضيلة الأخلاق، هي من الراسخات التي سرت في دم صاحب “سقط الزند” ومن ثم نشأ عليها كتربية بيتية في بيت والده، ومن ثم شربها وهو طفل بريء القلب، ناصع العقل، عندما فقد بصره، فحرص كل حياته على إعلاء شأن بصيرته، ونقاء سريرته، وهذا ما كان.

يقول:

فُؤادُكَ خَفّاقٌ وَبَرقُكَ خافِقُ

وَأَعياكَ في الدُنيا خَليلٌ مُوافِقُ

تَخَيَّر فَإِمّا وَحدَةٌ مِثلُ مَيتَةٍ

وَإِمّا جَليسٌ في الحَياةِ مُنافِقُ

أَردَت رَفيقاً كَي يَنالَكَ رِفقُهُ

فَدَعهُ إِذا لَم تَأتِ مِنهُ المَرافِقُ