مجلة البعث الأسبوعية

إعادة هيكلة الدعم ضرورة تفرض نفسها لتصويب مساراته.. وتعزيز البنية الإنتاجية يمكّن المستبعدين ويعزز موارد الحكومة

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

لا شك أن ثمة معطيات استندت عليها الحكومة لدى تعاطيها مع ملف الدعم، والذي هو في حقيقة الأمر ليس حديث الساعة، بل يعود تاريخ إعادة النظر فيه إلى عام 2008.

مطرقة وسندان

مع إقرارانا بضرورة توجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين، ولاسيما بعد أن أضحى الدعم الاجتماعي بين مطرقة الحاجة الاجتماعية وسندان الإرهاق المالي للموازنة، إلا أن ما شاب هذا الملف من أخطاء قاتلة في البيانات وانعكاساتها السلبية لجهة استبعاد شريحة واسعة ممن يستحقون بالفعل الدعم، يندرج ضمن سياق عدم التنسيق بين الوزرات المعنية من جهة، وينم عن تراخي الجهات العامة في مسألة تمكين البنية التحتية للحكومة الإلكترونية من جهة ثانية.

ماضية فيه

نعتقد أن الحكومة ماضية بإعادة هيكلة الدعم ولا نظن أن هناك رجعة عنه من حيث المبدأ، لأسباب لها علاقة بالدرجة الأولى بالهدر والفساد، بدليل أن الحكومات المتعاقبة استطاعت خلال سنوات الأزمة من تأمين كل الاحتياجات الضرورية والأساسية المدعومة منها وغير المدعومة، لكنها أخفقت بذات الوقت بإيصال الأولى لمستحقيها، وذلك نظراً لتعدد الحلقات المسؤولة عن انسياب هذه المواد إلى مستحقيها، وبالتالي فإن سلسلة ما بذلته سلطتنا التنفيذية من جهود لم تكتمل حلقاتها، خاصة الأخيرة منها وهي الأهم دون أدنى شك، فرغم قدرة الحكومة على تأمين هذه المواد إلا أنها لم تصل إلى المستهلك والذي هو الهدف الأساسي من كل هذه الجهود، ما يعني أن حكومتنا إما عجزت أو تجاهلت البحث عن آليات وسبل يمكن من خلالها تحقيق الهدف المنشود، أو أن كل ما صدر من تصريحات حكومية حول تأمين السوق بما يلزم من مواد أساسية مجرد فقاعات إعلامية..!.

وهنا نستبعد الاحتمال الثاني ونرجح الأول، على اعتبار أنه بإمكان أي مواطن حالياً الحصول على كل ما يحتاجه وبما يشاء كميات كبيرة من هذه المواد ولكن بأسعار فلكية، فلتر المازوت تجاوز حاجز الـ3000 ليرة، وربطة الخبز يتراوح سعرها ما بين الـ 1250 – 1500، واسطوانة الغاز بحدود الـ100 ألف ليرة وأحيانا تزيد عن ذلك..!. ما يعني أن الحكومة نجحت بتأمين هذه المواد وفشلت بإيصالها للمستهلك وتخليصه من ظاهرة الاحتكار وتجار الأزمات، رغم سهولة إيصالها مقارنة بتأمينها، وهنا لا بد -وبالتوازي مع مضي الحكومة بتوجيه الدعم إلى مستحقيه- من سن قوانين وتشريعات صارمة بحق كل من يستغل حاجة الناس ويتاجر بقوتهم، وعدم التساهل باتخاذ أي إجراء بحقهم، خاصة وأن معظم ما يتاجر به من مواد وسلع هي بالأساس مدعومة ومن حق الشعب الاستفادة من هذا الدعم وليس المتاجرين به، ولا ضير أن يطل جميع وزرائنا خاصة المعنيين منهم بالشأن الاقتصادي والخدمي عقب كل جلسة لمجلس الوزراء ويضعونا بصورة ما يقدمونه من أفكار ومبادرات، ويتكلموا بلهجة لا تخلو من الوعيد بحق كل من تسول له نفسه باستغلال مقدرات البلاد والعباد، وأن يقوموا بجولات تفتيشية مفاجئة على المؤسسات الحكومية خاصة تلك المعنية بالمستهلك، لمعرفة منافذ تسلل المواد والسلع إلى الأسواق بغير حق، ومعاقبة المسؤولين عن ذلك.

أس المشكلة

نجزم أن أُس المشكلة في الاقتصاد السوري تكمن بتراجع الإنتاج الحقيقي بشقيه الصناعي والزراعي، إضافة إلى تدني السياحة، وتراجع إنتاج النفط، فضلاً عن عديد الأسباب التي أخلت بمعادلة نجاح قطاعنا العام الإنتاجي وتراجعه إلى الصف الثاني أمام نظيره الخاص، وبالتالي نعتقد أنها ساهمت بانحسار الدعم وإطلاق مفهوم “عقلنة الدعم” الذي أثار تحفظاً كبيراً لدى معظم الشرائح، علما أن ما يمتلكه الأول من مقومات مادية ولوجستية تفوق ما لدى الثاني الذي بدا خلال سنوات الانفتاح الاقتصادي الأخيرة – بنظر كثير من المراقبين – يسحب البساط من تحت من بقي على مدى سنوات طويلة سيد الموقف في اقتصاد يسارع الخطى بتثاقل ليحجز مكانا له على خارطة الاقتصاد العالمي.

أسباب الخلل

ليس أولى أسباب خلل هذه المعادلة الروتين والبيروقراطية وليس آخرها الفساد الإداري وما نجم عنه من تداعيات جعلته يأخذ دور الأب المغدق على أبنائه دون أن يقدموا ما يكافئ – كحد أدنى – عطاءات الأب الذي أُثقل بعقوق أبنائه الناكرين لمسؤوليتهم تجاه ما اؤتمنوا عليه.. ما أدى بالنتيجة إلى تكوين نظرة خاطئة تجاه دور حكومتنا الأبوي، تملي على الدولة تقديم الرعاية والدعم المباشرين لجميع الشرائح، بدءاً من تأمين فرص عمل لجميع الخريجين، ومروراً بتقديم المعونة الاجتماعية للأسر الفقيرة، وليس انتهاءاً برفع قيمة الدعم من مواد وخدمات أساسية..الخ ما يثقل بالمحصلة كاهلها ويشوه دورها وواجبها لاعتبارات تتعلق بالفساد والهدر وما ينجم عنهما من تشتيت وضياع للهدف المنشود، ولا نغفل أيضاً تراجع إيرادات القطع الأجنبي خلال السنوات العشر الأخيرة، ما ضغط بالنتيجة على موارد الحكومة، وعلى ملف الدعم الاجتماعي الذي وصلت قيمته بالموازنة العامة للدولة إلى 5.5 تريليون ليرة سورية.. رغم ذلك بقيت الدولة حاضرة بدعهما، ليس هذا فحسب بل إن المنطق البراغماتي يجعلنا أولاً نعترف بصمود الدولة في ظل أزمة تعدت الخمس سنوات، وثانياً نُذكِّر مرة أخرى بمبلغ الـ 5.5 تريليون ليرة سورية الموجه للدعم والذي يشكل ما نسبته 40% من الموازنة العامة للدولية.

تجاوب

رغم إقرارنا بجسامة الخطأ الناجم عن البيانات كما أسلفنا، لا ننكر تجاوب الحكومة المباشر لجهة تصحيح الأخطاء والعثرات التقنية والتقديرية في البيانات التي رافقت تطبيق قرار استبعاد شرائح محددة من الدعم، إذ أعلن رئيس مجلس الوزراء أن كل موظف دائم أو مؤقت أو متقاعد مدني أو عسكري معين على سلم الرواتب والأجور، وتم استبعاده من الدعم بسبب امتلاكه سيارة واحدة فقط، تتم إعادة الدعم له بعد تقديمه طلب اعتراض على الموقع الإلكتروني والتدقيق به بغض النظر عن تاريخ تملُّكه للسيارة.

وأصدر مجلس الوزراء قرارات عدة منها اقتصار الاستبعاد من منظومة الدعم على أصحاب السجلات التجارية بدءاً من الفئة الممتازة وحتى الفئة الثالثة، ويعتبر حاملو السجل التجاري من الدرجة الرابعة مشمولين بالدعم، ولا تستبعد الأسرة من منظومة الدعم في حال كان أحد أفرادها (غير رب الأسرة) يمتلك سجلاً تجارياً ويقتصر الاستبعاد من الدعم عليه بشكل فردي.

كما تقرر ألا يشمل قرار الاستبعاد مالكي السيارات العامة العاملة على المازوت بكل أشكالها ومهما كان عددها، ودعماً للقطاع الزراعي، إبقاء الدعم لأصحاب الفعاليات الزراعية المشتركين على التوتر 0.4 «ك. ف. ا» باستطاعة 100 «ك. ف. ا» فما دون ولمركز تحويل واحد، والمستخدم حصراً لأغراض ري الأراضي الزراعية.

ضمان

لضمان استمرار صمود الدولة والحفاظ على سياساتها المسخرة للدعم يتوجب على الحكومة إعطاء زخم أكبر للعملية الإنتاجية، ونعتقد أيضاً أنها باتت تمتلك أداة فعالة لهذا الخصوص بعد إحداث مؤسسة ضمان مخاطر القروض، لتشكل مع هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهيئة دعم تنمية الإنتاج المحلي والصادرات، مثلثاً ذهبياً كفيل بتأسيس مرحلة تنموية جديدة عنوانها الرئيس الجدية باتجاه النهوض بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وذلك على اعتبار أن التنمية تبدأ من هيئة المشروعات باعتبارها الجهة المشرفة على هذا القطاع والمعنية بتفعيل هذه المشروعات، انتقالاً إلى مؤسسة المخاطر الكفيلة بتسهيل عملية التمويل، وصولاً إلى هيئة الصادرات التي تشكل الضلع الثالثة لتسويق منتجات هذه المشروعات، مع الإشارة هنا إلى أن ورش الظل نواة حقيقية لهذه المشروعات في حال تم حُسن التعاطي معها ودعمها لإخراجها إلى النور، ولنا أن نتصور انعكاس إنتاجها على الاقتصاد الوطني وعلى الخزينة العامة للدولة إذا ما علمنا أن هذه الورش تغطي معظم الجغرافيا السورية..!.

قيمة مضافة

ما يعطي قيمة مضافة لاقتصادنا الوطني هو العامل البشري المتمتع بمهارات وكفاءات طالما تم استقطابها عربياً وعالمياً، فضلاً عما يميزه من سمات لا ترتكز على قطاع محدد بعينه دون بقية قطاعاته المتعددة المتداخلة بألوانها المتسقة والمشكلة لوحة فسيفسائية متناغمة الألوان، غياب أي لون منها يجنح بها نحو النشاز وعدم وضوح المعنى.

فرغم أن الطابع العام للاقتصاد السوري هو زراعي، إلا أنه لم يلغ أو يحد من الصناعة والسياحة والتجارة، إلى جانب الروافد الأخرى التي تساهم بتقويته كالثروات الباطنية وموقعها الاستراتيجي الذي يخولها أن تكون بوابة أوربا البرية إلى العالم العربي. فهو ليس سياحياً لا نفطياً ولا زراعياً ولا صناعياً، وإنما هو مزيج من هذه القطاعات مجتمعة، يستدعي التعاطي معه آليات وبرامج من نوع خاص، بحيث يتم دراسة كل منطقة لمعرفة قدراتها وطاقاتها البشرية والطبيعية، وتفعيلها بما يضمن استثمارها وتنميتها بالشكل الأمثل، وبالتالي يعزز البنية الإنتاجية الكفيلة بتقوية موقف الحكومة وتعزيز إمكانياتها لإعطاء مزيداً من الزخم لملف الدعم أولاً، وتمكين المستبعدين من الدعم من خلال تعزيز البنية الإنتاجية ثانياً

أولوية

نؤكد أن الدعم لا يزال ضمن أولويات الحكومة رغم كل الظروف التي يمر بها الاقتصاد الوطني، من عقوبات خارجية، وتوقّف كثير من المنشآت الإنتاجية العامة والخاصة، وتراجع الاحتياطي النقدي..الخ، ولعل ما سبب دأبت الحكومة عليه خلال الأيام القليلة الماضية لجهة إعادة هيكلته، يتمثل بعدم تلمس هذا الدعم كما يجب يكمن بتسربه عبر أقنية المتاجرين به، بدءاً من المستجّرين غير الشرعيين للكهرباء، مروراً بالمتعدّين على المواد التموينية المقنّنة للمتاجرة وبالمتلاعبين  بدفاتر مدخلات ومخرجات الأدوية في المشافي، وليس انتهاء باللامبالين في القطاع التربوي بغية فتح منافذ لهم في مجال الدروس الخصوصية..الخ. وبالتالي فإن سبب انتفاء أي أثر لدعم المواطن وفق الخطط الموضوعة والإمكانيات المتاحة يعود لتعثر انسياب الـ5.5 مليار في أقنيتها الطبيعية..!.

أخيراً

نقدر للحكومة سعيها الجاد لتأمين ما يلزم من مواد أساسية يومية للمواطن، لكننا نهيب بها أن تكمل جهودها المثمرة بهذا الاتجاه عبر سد الثغرات وقمع التجاوزات الصادرة عن رموز الفساد وذيوله، ويمكن لأي مسؤول جاد لرأب صدع مؤسسته، أن يكتشف ما يكتنفها من تجاوزات وذلك من خلال متابعته الشخصية والحثيثة لها بعيداً عما يرفع له من تقارير سواء كانت يومية أم شهرية، ونجزم أن هذه المرحلة تتطلب من كل مسؤول مهما كان منصبه أن ينزل إلى الميدان العملي ليلمس ويشاهد ما يعتري مؤسساتنا من ارتكابات قد يكون بعضها عن غير قصد..!.