مجلة البعث الأسبوعية

بايدن يرث إرث سلفه في مواجهة الصين ويدير حرباً باردة من نوع آخر

 البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري

رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن تعالى عن ذكر الصين في أول مؤتمر له بعد فوزه بالانتخابات نهاية عام 2020، ليثير بذلك ما يمكن وصفه بنوع من الاستغراب الذي اعترى المتابعين  كون رئيس بلادهم تحدث عن كل مشاكل الولايات المتحدة باستثناء الصين، إلا انه لاحقاً ما لبثت الصورة أن تغيرت بشكل ملموس، حين أكد في المؤتمرات اللاحقة ثبات توجه بلاده بذات إطار سلفه المهزوم، حينما قال أنه ينوي على غرار سلفه دونالد ترامب مواجهة الصين، ولكن بطريقة مختلفة تماماً عن التي اعتمدها الملياردير الجمهوري والتي اتسمت بمواجهة مباشرة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.

هذه المواجهة وإن لم تخرج عن إطارها الناعم، إلا أن المتابعين في العلاقات الدولية يمكن تلمس بعض السلوكيات الصلبة في بعض الفترات، حتى ذهبت بالبعض من المهتمين ودارسي العلاقات الدولية لوصف ما يشوب العلاقة بين الجانبين بأنه أقرب لما يمكن أن يطلق عليه “الحرب الباردة المرتقبة بين بايدن والصين”، ففي مطلع شهر أيلول الماضي أعلنت واشنطن تشكيل تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يضم كلاً من الولايات المتّحدة وبريطانيا واستراليا.

وعلى الرغم ما تم ملاحظته أثناء إعلان تشكيل هذا التحالف بأنه لم يأت أي من القادة الثلاثة على ذكر الصين في مؤتمرهم الصحفي، ولا فعل كذلك بيانهم المشترك الذي اكتفى بالإشارة إلى “السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، لكن مما لا شك فيه أن ذلك التحالف يهدف قبل كل شيء إلى مواجهة الطموحات الإقليمية لبكين، واستهداف أحد أهم الممرات البحرية الحيوية بالنسبة لها.

أيام فقط بعد إنشاء ما عرف بتحالف “أوكوس”، الذي أثار حنق الحلفاء الأوروبيين وسقطت معه آخر أوراق الثقة المطلقة في الحماية الأمريكية، ضجت وسائل الإعلام العالمية بخبر تحالف تقوده الولايات المتحدة أيضاً، إذ عكف الرئيس جو بايدن على تعزيز الوجود الأميركي في جنوب شرق آسيا، من خلال توثيق الصلات بكل من الهند واليابان واستراليا، في تكتل يبدو ظاهره مختلفاً تماماً عما يكنّه من أسرار، حيث يبدو أن النوايا الحقيقية تشير إلى أن واشنطن تهدف من خلال هذا الحلف الجديد إلى إحكام الخناق على النفوذ الصيني المتنامي ومحاولة تحجيم بكين.

وبمعنى آخر فإن هناك مراقبين كثر يشيرون إلى أن أعضاء كتلة “آسيان”، التي تضم نحو 10 دول من منطقة جنوب شرق آسيا، قلقون من احتمالية تغير مسار حلف “كواد” إلى اتجاهات أخرى، خاصة أن الحملة التي تقودها أميركا ضد الصين يمكن أن تدخل المنطقة في حالة من عدم الاستقرار، وانتشار حالات الاصطفاف التي يمكن أن تقود إلى تصعيد عسكري سيضر بالمنطقة والعالم.

وربما النقطة الأكثر ملاحظة في واشنطن أن التشدد تجاه العلاقات مع الصين يعد أحد القضايا النادرة التي يتفق عليها سياسيو الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، وتروج لها وسائل الإعلام بشكل مستمر ومتنامي. بل يمكن القول بكل شفافية ووضوح أنه “لم يختلف الرئيس الديمقراطي جو بايدن عن نهج سلفه الجمهوري دونالد ترامب في هذا الإطار”.

وعلى الرغم من ارتفاع حدة و درجة الصراع في النظام السياسي الأميركي حالياً وبصورة غير مسبوقة، إلا أن هناك  نوعاً من الإجماع حول ضرورة مواجهة سياسات الصين بين الديمقراطيين والجمهوريين، ويعتقد أنه قد تكون هناك بعض الاختلافات الصغيرة نسبياً بين الاثنين، لكن ليس بدرجة كبيرة كما قد يعتقد البعض، من حيث أن بايدن قد يحاول المزيد من التواصل مع الصين حول بعض القضايا الحرجة مثل تغير المناخ، ولكن من المرجح أن يحافظ على نهج قوى إلى حد ما تجاه الصين، مثل ترامب، بشأن قضايا التكنولوجيا، والقضايا التجارية، والقضايا الأمنية  وما يسمى الديمقراطية وحقوق الإنسان.

حتى إن استضافة الولايات المتحدة نهاية العام الماضي لما سمي بقمة الديمقراطية والتي شارك فيها قادة أكثر من 100 دولة، في سعي ملحوظ من قبل إدارة بايدن لتسليط الضوء على الجهود المبذولة لمواجهة الاستبداد ومحاربة الفساد وتعزيز حقوق الإنسان في النظام الدولي عموماً، وبشكل ضمني وخاص في الصين، شكلت محاولة أمريكية لتطويق الصين .

ولكن المفارقة في أن نتيجة تلك القمة كانت أقرب إلى التلاشي المبني على أسس كثيرة من الفشل بداية، لأنه بالعودة إلى الحملة الرئاسية للعام 2020، صرح حينها المرشح الديمقراطي جو بايدن أنه في حالة انتخابه سيعمل على إعادة هيبة واحترام السياسة الأمريكية، سواء في الداخل أو بالخارج، ولكن الواقع أثبت أن مجرد اقتراحه وعقد هذا المؤتمر جسد فقط نيته لإعادة بناء صورة الولايات المتحدة في العالم، لكن غاب عن بال الرئيس بايدن أن القمة كتب لها الفشل قبل انطلاقها نظراً لتدهور الديمقراطية الأميركية بعد أحداث 6 كانون الأول 2021 إلى جانب أن معدلات تأييد بايدن انخفضت إلى نسبة 40 في المائة. فضلاً عن أن اختيار البلدان المدعوة والذي كان من المفترض أن يتم بناءً على التزامها الأخلاقي وعلى المصالح الإقليمية للولايات المتحدة إشكالياً، فقد ظهر أن العديد من الحلفاء كانوا مترددين في الانجرار إلى ما يمكن وصفه على أنه تحالف مناهض للصين، بل الكثير من هذه الدول لا تملك سوى اليسير من الديمقراطية التي ترفعها القمة كشعار لها.

ومن هنا، يمكن التأكيد بأن هذا التوجه لـ بايدن خلال عام من إدارة البيت الأبيض، وبالتحديد في إدارته للنزاع والصراع مع الصين يسعى لتحقيق عدة نقاط:

أولاً: السعي عبر تكثيف التحالفات العسكرية وغير العسكرية ومع الشركاء التقليدين أو غيرهم من أجل وضع وتنفيذ خطط تخدم مصالح واشنطن في الأقاليم المجاورة للصين، بما يؤرق أمن الصين ويزيد احتمال تصدير الأزمات إليها في ظل وجود بعض التقاطعات بين الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة الأمريكية و واشنطن في مواجهة تطلعات الصين. وقد يكون الهدف من ذلك هو الحفاظ على “التفوق الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي في المنطقة مع منع الصين من إنشاء مناطق نفوذ جديدة غير ليبرالية”.

وبتفسير ثاني أكثر توضيحاً وتبسيطاً،  يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يحاول أن يسلك نهجاً متشدداً يتشابه في طبيعته مع توجهات الإدارة السابقة بقيادة ترامب، ومع ذلك فهو يحاول اتباع طرق مختلفة في التعامل مع الصين، ولا يحصرها بالتلويح العسكري، حيث يدرك الأميركيون صعوبة التعاطي العسكري المباشر مع القوة العظمى الصاعدة، وبالتالي فإن استعادة استراتيجية التحالفات العسكرية والاقتصادية هي السبيل الأمثل وفقاً للمعطيات الجيوسياسية الحالية، إلى جانب دفع الشركاء التقليديين وغير التقليدين لاتخاذ مواقف أكثر وضوحاً ضد الصين مثل تلويحهم بانتهاك حقوق الإنسان، ومزاعم غياب الديمقراطية وغيرها الكثير.

ثانياً: محاولة إدارة بايدن إطلاق إشارات – وإن بدت متناقضة- حول بدء الحرب الباردة بين بكين وواشنطن من عدمها في وقت يمثلان فيه أكبر اقتصادين في العالم، مع تزايد عمق التنافس والصدام على أسس أيديولوجية وعسكرية وتكنولوجية.

لكن المعطيات والمؤشرات الواقعية تثبت حقيقة أننا بصدد حرب باردة جديدة، لكنها ليست كالحرب الباردة السوفيتية الأميركية سابقاً، وتدار بحذر دقيق لأن اقتصاد الدولتين مترابط بصورة شديدة التعقيد، وهو ما سيؤثر على استقرار الاقتصاد العالمي سلباً وبشكل مدمر على أقل اعتقاد. فالصين ليست الاتحاد السوفييتي، ولا يمكن اتباع أميركا والغرب سياسة احتواء الصين بالتضييق عليها، ذلك أن حجم التجارة بين الدولتين وصل إلى ما يقرب من 560 مليار دولار عام 2020.

ثالثاً: قد يبدو عام 2022 عام محاولة الهدوء الصيني الأمريكي على الأقل لحد منتصف هذا العام الذي قطعنا أولى أيامه. حيث يسعى بايدن لتحسين وضع حزبه داخلياً قبل الانتخابات النصفية للكونغرس، وهو و إدارته منشغلان في إرباك روسيا الاتحادية، وتهديد مجال أمنها الحيوي عبر إثارة الفوضى في حديقتها الأمامية “أوكرانيا” والجنوبية “كازاخستان”، كما أنه لا يمكن الجدال في أن إدارة منافسة الصراع بين الولايات المتحدة كقوة عظمى أنهكتها الحروب وارتدت عليها سلباً بعد انسحابها من افغانستان ، والصين كقوة تلهث على طريق الصعود نحو القمة، تتطلب إعادة ترتيب أولويات المنافسة التي لا يمكن إلا أن يتأثر بها العالم من أقصاه إلى أقصاه.