مجلة البعث الأسبوعية

من رسالة لافروف إلى البيان الروسي الصيني .. إعلان تأسيسي لعالم جديد!

البعث الأسبوعية- أحمد حسن

على ما يبدو فإننا نشهد هذه الأيام سباق الأمتار الأخيرة بين عالم يموت وآخر يولد من رحمه، وبالطبع فإن الغائب الأكبر عن هذا السباق هو الروح الرياضية، فالجائزة هنا ليست مجرد ميدالية، حتى لو كانت ذهبية، بل هي كوكب بأكمله، وربما كواكب أخرى أيضاً.

صحيفة “التلغراف” البريطانية كثّفت هذا المشهد بإيجاز بليغ حين اعتبرت الإعلان المشترك للرئيس الروسي ونظيره الصيني يوم الجمعة الماضي، “إيذاناً ببدء حقبة جيوسياسية جديدة”، فالاسم الرسمي للبيان، “الإعلان المشترك بخصوص دخول العلاقات الدولية عهداً جديداً والتنمية المستدامة”، دالّ ومعبر جداً، أما مضمونه فيفصح أكثر عن هذا الأمر وخاصة توافق الرئيسين على “تولّي المجتمع الدولي الزعامة”، أي “بتعبير آخر وأوضح، كسْر الهيمنة الأميركية على القرار العالمي”.

خلفيات الإعلان

في جوهره، وبرغم لغته الهجومية والقاطعة، إلا أن الإعلان ذاته جاء من موقع دفاعي وعلى خلفية “الهجوم” الأمريكي، الفعلي، على البلدين، وتجاهل واشنطن، بل ازدرائها، للمعادلة البسيطة التي أعاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تكرارها في رسالته الأخيرة إلى نظرائه الغربيين، وهي أن الأمن كي يبقى ويدوم يجب أن يكون متبادلاً وإلا لن يكون لأحد دون الآخر.

المعادلة قديمة لكن تكرارها في “الرسالة” يكشف، كما تكشف الرسالة كلها، بمضمونها ولهجتها، عن متغير جديد، إنه الاستعداد الروسي للمضي قدماً حتى النهاية، وهو أمر لقي دعماً سريعاً وصريحاً من بكين.

واشنطن التي بدأت “الحرب” -في محاولة لتأجيل المتغير القادم حكماً- تجاهلت “الرسالة” بداية وردّت، بعد ذلك، على “البيان” بالتصعيد على أكثر من جبهة، في الأولى هدّدت، فعلياً ورسمياً، الصين بالقول: إنها “تخاطر بإحراج نفسها وتحمّل عواقب دعمها لجهود روسيا”، وأرسلت، ثانياً، قرابة 3000 جندي أميركي إلى بولندا –خطوة قابلتها روسيا بنقل مقاتلات سوخوي طراز «سو25 – إس إم» إلى بيلاروسيا- وعملت، ثالثاً، على شد عصب الحلفاء وتقريع “المتخاذل” منهم.

مجلة “دير شبيغل” توقعت تعرض المستشار الألماني أولاف شولتز للتأنيب خلال زيارته واشنطن لأن هذه الأخيرة تشتبه “في أنه يجامل إلى حد ما روسيا”، فيما الرجل كما تقول الوقائع، يحاول السير “على حبل مشدود، بين الوقوف موحداً مع واشنطن، والحفاظ على العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين برلين وموسكو”.

بيان “إنهاء السلام الأمريكي (الباكس أمريكانا)”!!

إذاً “البيان” وإن كان رداً دفاعياً، لكنه وشى أيضاً بـ”بدء حقبة جيوسياسية جديدة”، وقال علناً أنه “من الآن فصاعداً، لن تعتبر الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة أمراً مفروغاً منه”، فبعد الكلام المعتاد عن الدعم المتبادل والرؤية المشتركة، وبعد التنديد بتحالف “أوكوس” وتجديد معارضتهما المشتركة، سواء للدور السلبي لواشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أو في محاولتها لتوسيع حلف “الناتو”، والأهم، بعد تعهّدهما بالتصدّي “لأيّ تدخُّل خارجي في شؤون دول ذات سيادة تحت أيّ ذريعة كانت، مكرّرَين رفضهما “الثورات الملوّنة”، بعد ذلك كله أفصح البيان عن هدفه الرئيس بالقول: “إن العالم يمرّ الآن بتغييرات واسعة النطاق، فيما تدخُل البشرية عهداً جديداً للتنمية السريعة والتغيّرات واسعة النطاق”، بما يشمل تعدّدية الأقطاب، والعولمة الاقتصادية، وبناء المجتمع المعلوماتي، والتنوّع الثقافي، وتَغيُّر منظومة الحوكمة العالمية والنظام العالمي، و”نظراً لتعمُّق ترابُط دول العالم بعضها ببعض، فإن ذلك يدعو إلى بلورة نزعة جديدة تقضي بإعادة توزيع توازن القوى في العالم، مع ضرورة أن يتولّى المجتمع الدولي الزعامة، بما يخدم مصلحة التنمية السلمية والتدريجية”.

وهذا يعني “إنهاء السلام الأمريكي (الباكس أمريكانا)”، وهذا أيضاً بيت القصيد.

وبالطبع لم يقتصر الأمر على الحبر فقط، فقد كان إعلان الطرفين عن تفاهم بين شركة غاز بروم الروسية وشركة الطاقة الوطنية الصينية على إنشاء أنبوب عملاق لنقل الغاز الروسي الى الصين، استراتيجياً بامتياز، لأنه أول وأوضح رد عملي على محاولة محاصرتهما -طاقوياً- معاً بعدما كشفت واشنطن نيتها مطالبة قطر بتجميد عقودها الطويلة الأجل مع الصين لتزويد أوروبا بالغاز كخط بديل للغاز الروسيّ، والمفارقة هنا أن التكلفة المالية للمشروع الروسي الصيني هي أقل من التكلفة المالية لمخطط واشنطن –الدوحة، وهي تكلفة سيدفعها حلفاء واشنطن لا خصومها وتلك ضربة أمريكية أخرى لهم بعد أن ظنوا أنهم ارتاحوا من “صفعات” ترامب.

الأمن إما أن يكون للجميع أو لا أمن لأحد

قبل البيان المؤسس هذا كان لافروف قد بعث في 28 كانون الثاني الحالي رسالة مليئة بدلالات التحول والتغير إلى وزراء خارجية الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوروبية منبهاً لمخاطر توجه هذه الدول لتجزئة الأمن العالمي بين من يحق له ومن لا يحق.

الرسالة التي حوت كماً كبيراً من الحقائق واستندت على بنود حزمة من الوثائق والاتفاقات الدولية الموقعة سابقاً والتي ضربت بها واشنطن، وحلفائها، عرض الحائط، وأشارت إلى أن هذه الدول “تستمر في اختيار البنود الملائمة لها في هذه الحزمة واقتلاعها من السياق العام”، و”بشكل انتقائي لتبرير المسار المتخذ في مجال التوسع غير المسؤول للناتو”، أكدت، أي الرسالة، بلهجة دبلوماسية، لكنها حازمة، أن روسيا لن تقبل ذلك بعد الآن، وهي “تريد الحصول على إجابة واضحة على السؤال حول كيفية فهم شركائنا لالتزاماتهم بعدم تعزيز أمنهم على حساب أمن الدول الأخرى، على أساس الالتزام بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة؟ كيف بالضبط تعتزم حكوماتكم الوفاء بهذا الالتزام عملياً في ظروف اليوم؟”، والأهم، “إذا كنتم ترفضون هذا الالتزام وتتخلون عنه، فيرجى إبلاغنا بذلك بوضوح. بدون الوضوح الكامل حول هذه القضية الرئيسية المتعلق بالارتباط المتبادل بين الحقوق والالتزامات التي تمت الموافقة عليها على أعلى مستوى، من المستحيل تحقيق توازن المصالح المنصوص عليها في وثائق مؤتمري قمتي اسطنبول وأستانا”.

وبالتالي فإن الأمن إما أن يكون للجميع أو لن يكون لأحد، وتلك لهجة “خروتشوفية” لا تخفى على أحد.

خاتمة

رسالة لافروف سبقت “البيان” زمنياً لكنها تكاد تفسر مضمونه وتدافع عنه استباقياً، والنتيجة حقبة جيوسياسية جديدة، لكنها، كما هو حال كل حقبة جديدة، لن تأتي بالورود للجميع، وهي، أيضاً، لن تترسخ دون دماء البعض، وبالطبع لا حاجة لذكر الأسماء.