دراساتصحيفة البعث

أوكرانيا.. “الحرب الصامتة” ضد روسيا

ريا خوري

على الرغم من اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية الشديد بالمواجهة مع الصين بكلّ الطرق الممكنة، يبقى الاهتمام بمواجهة روسيا، التي تعتبرها “العدو التقليدي”، في التخطيط الاستراتيجي الأمريكي الذي لا ينفك في سعيه للقضاء على هذه الدولة القوية عن طريق تفكيكها، كي يسهل عليه بعد ذلك التفرغ للصين، والوصول إلى ما بات يُعرف في الدوائر الأمريكية بــ”العصر الألفي السعيد” الذي تحلم به الولايات المتحدة، وأن تحكم العالم لمدة لا تقلّ عن ألف سنة مقبلة!.

لقد بدأت الولايات المتحدة، وحلفاؤها الغربيون، يتقدمون بخطا مدروسة نحو حدود جمهورية روسيا الاتحادية وذلك منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، والمنظومة الشيوعية في دول شرق أوروبا، في مطلع التسعينات من القرن الماضي في العام 1991، فتمّ ضمّ معظم دول شرق أوروبا التي كانت تنضوي تحت لواء حلف وارسو أيضاً إلى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تمّ ضمها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واستمرت عملية التقدم ببطء وحذر مستخدمة أسلوب الزحف والقضم حتى وصلت إلى جمهورية جورجيا التي تقع جنوب القوقاز في غرب آسيا وتقع على البحر الأسود وهو بحر استراتيجي بالنسبة لروسيا.

الجدير بالذكر أنه حدثت في جورجيا ثورة ملونة، وأعلنت عن مساعيها الجادة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، واتخذت موقفاً عدائياً من روسيا بتحريض من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبدأت تتدخل بشكلٍ سافر وتطالب بضمّ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وأطلقت عملية عسكرية ضخمة لضمّها بالقوة.

وفي عام 2008، وبعد مزيد من المناوشات المحلية، تحوّلت هذه التوترات إلى نزاع ساخن، ما تطلّب من الجيش الروسي التدخل في الأراضي الجورجية لنجدة أوسيتيا الجنوبية. وخلال خمسة أيام فقط، ألحقت القوات الروسية هزيمة مؤلمة بالجيش الجورجي، تلا ذلك دخول قوات غير نظامية من أوسيتيا والقوقاز والشيشان وهدَّدت بالسيطرة على العاصمة تبليسي. وأدَّى اتفاق سلام تفاوض عليه الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي آنذاك، إلى انسحاب القوات الروسية، لكن القيادة الروسية اعترفت باستقلال منطقتي (أبخازيا) و(أوسيتيا الجنوبية) واحتفظت منذ ذلك الحين بوجود عسكري فيهما للدفاع عن عمق أمنها القومي.

ولا تزال جبهة جورجيا تحت صفيح ساخن مهدّدة بالاشتعال مع إصرار القيادة الجورجية على اللحاق بالغرب، وهذا ما لا تريده روسيا، لأن حلف شمال الأطلسي سيضع صواريخه وأسلحته وقواعده العسكرية على تخوم المدن والقرى الروسية.

اليوم تمكّن الغرب الأمريكي الأوروبي من تخريب أوكرانيا والعبث فيها عبر ثورة ملوّنة قام بها القسم الغربي من سكانها، ما دفع روسيا إلى التدخل السريع لحماية نفسها، فدعمت القسم الروسي الشرقي، ولا تزال أوكرانيا جبهة مشتعلة يصبّ فيها الغرب الأمريكي الأوروبي الزيت على النار، وفي حقيقة الأمر أن هذا الغرب المتوحش لا يريد لها أن تنطفئ عبر تسوية سياسية أو مفاوضات دبلوماسية، بل إنه يشجع القيادة الأوكرانية على المزيد من التصلّب في مواجهة روسيا بل والتحرّش بها.

وما يشهده العالم اليوم هو أن المسألة الأوكرانية تقف عند حدود حرب صامتة تدور في الخفاء، في حالة اللا حرب واللا سلم، والهدف الرئيسي من الإبقاء على جبهة أوكرانيا مفتوحة إلى حدّ غير معلوم يعني أن الغرب الأمريكي الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) سيبقى على حدود روسيا ليراقب نوعية وجهوزية ومستوى يقظة الجيش الروسي، وليستكشف الطرق حول كيفية التغلغل إلى داخل جمهورية روسيا الاتحادية كما فعل مع البوسنة والهرسك التي عبث فيها وكانت القشة التي قصمت ظهر يوغسلافيا، ودفعت بها إلى التقسيم إلى نحو ست دول.

من جهتها القيادة الروسية في الكرملين والقيادة العسكرية تدركان حقيقة المخطّطات التي تضعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وطموحات (الناتو)، فقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مرة: “إنَّ الغرب لم يتوقف عن سعيه لتفكيك روسيا. روسيا تسعى لتفادي أي صراع مع الغرب بسبب الأزمة مع أوكرانيا، لأنَّ أي حرب ستكون مدمّرة وربما تتطوّر إلى حرب عالمية ثالثة، لكن تفادي الصراع لا يكون عبر بقاء الجبهة الأوكرانية مفتوحة كما يرغب هذا الغرب المتوحش، بل في تحقيق تسوية نهائية لهذا الملف عبر تراجع الغرب بشكل كامل عن أوكرانيا، وتركها تعيش كأية دولة غير منحازة في العالم بأمنٍ وسلام”.

الجديرُ بالذكر أنَّ روسيا التي تتمتع بقوة عسكرية واقتصادية هائلة لا يمكن هزيمتها بسهولة، فقد سعت وما زالت تسعى إلى الحفاظ على أمنها القومي ومصالحها. ومن هذا المنطلق كانت قد قدّمت مقترحات عدّة إلى الولايات المتحدة وحلف (الناتو) مفادها أنَّ على حلف شمال الأطلسي عدم قبول أعضاء جدد في التحالف العسكري، وعدم القيام بإنشاء قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، وخاصة تلك القريبة من الحدود الروسية، لكن العنجهية والغطرسة الأمريكية والأوروبية دلّت أنها لن تستجيب لهذه المقترحات، لأن هذا الحلف لا يريد إيقاف الصراع مع روسيا، مستخدمين ضدها “الحرب الصامتة”، التي يعتبرونها مسألة حياة أو موت بالنسبة للغرب الذي يختنق بشدة في أزماته المتفاقمة بسبب صعود الصين وتحالفها مع روسيا، ويعتقد الغرب أنه في حال نجح في تحجيم روسيا، فعند ذلك فقط، سيعلن انتصاره على الصين، لكن يغيب عن دول الحلف وقيادته، وخاصة الدول الأوروبية، أن لها مصالح اقتصادية مع روسيا قد تتوقف في حالة نشوب صراع حاد بين الطرفين، خاصة وأن معظم دول أوروبا الغربية تعتمد اعتماداً كلياً على الغاز الروسي من ناحية عصب الحياة الاقتصادية الغربية، كما أن روسيا من أكبر الدول المنتجة للنفط، ومن ثم فإن توقف روسيا عن الإنتاج وحرمان أوروبا منه من شأنه أن يصيب المصانع والشركات الأوروبية بالشلل التام، وربما الإغلاق، ومن شأنه أيضاً أن يلهب الأسواق، وهذا رادع آخر للدول الأوروبية يؤكد عدم العبث معها والتريث باتخاذ أي قرار، ما عدا الويلات التي ستصيبها الحروب الطاحنة إذا وصلت حدّ استخدام أسلحة الدمار الشامل.