الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

كارثة ثقافيّة

عبد الكريم النّاعم

نحن، بحسب الواقع الذي نراه معمَّماً، وبحسب ما يصلنا، أمام كارثة ثقافيّة حقيقيّة، ولا يغيّر من هذه الحقيقة وجود مبدعين أصلاء ضربت جذورهم عميقاً في تربة الإبداع، ولكنّهم يكاد ينطبق عليهم القول “وردة لا تشكّل ربيعاً” مهما حملتْ من روائحه، أقول هذا منطلقاً من دور الثقافة في الوعي، وفي إثارة النهوض، وفي الارتياد، وترسيخ الصمود.

هنا، لابدّ من التفريق بين “الثقافة” و”التعليم”، فقد تجد متعلّماً بدرجة عالية من حيث الشهادة التي يحملها، ولكنّه ليس مثقّفاً، فهو حامل لمعلومات اجتهد في حفظ ما يؤهّله لأن ينال شهادته، والثقافة، بالمعنى الجوهريّ، ليست وعيّاً فقط، بل هي أحد الأسلحة النوعيّة للخروج من مناطق الظلمة إلى مناطق النّور، وهي التي تحارب الفساد بأنواعه، والانحرافات أية كانت، ولاسيّما ما ينغرز منها في تربة الطائفة، والمذهب، وكلّ ما يمكن أن يُحسب على مناطق لا علاقة لها بروح المستقبل والمواكبة، واجتثاث البذور السامّة.

أضيف إلى هذه النقطة علاقة الثقافة بـ “الأخلاق”، فقد دلّت الأحداث التي عاصرنا دمويّتها، ومفاجآتها، أنّ ثمّة من يُسمّون مثقّفين وقد انسلخوا عن معنى الأخلاق الوطني، وذهب بعضهم إلى حيث يقف أردوغان، والدواعش، وقادة الأخوان، وكانوا محسوبين من نجوم سورية الثقافية!

إذن الثقافة – كما جسّدها البعض – ليست عاصماً، بل لابدّ من كمّ رفيع من الوعي الوجداني، لابدّ من حضوره ليستقيم الحال، والوجدان كما ذكرتُ أكثر من مرّة قد يكون ناصعاً لدى راعي غنم في البادية، بينما، كما هي الحال في كثير من مقاطع حياتنا، نفتقده لدى مؤهّلين علميّاً، ولدى الكثيرين منكم من الأمثلة التي تعرفونها.

أعود إلى النقطة الهدف في هذه المقالة، وهي الكارثة الثقافيّة الزّاحفة، فنحن أمام عشرين سنة ممّا نعدّ من عمر حريق الخراب الذي استهدف سوريّة، عشر منها للحرب، وعشر لما بعدها، أي نحن الآن أمام جيلين شابين، مَن كان عمره أربع سنوات في بداية الأحداث صار الآن في الرابعة والعشرين، وهذان الجيلان، إلا في النّادر الذي لا يُذكَر، بعيدان عن عوالم الثقافة، سواء من كان منهم يتابع دراسته الجامعيّة، أو الذي ذهب في اتجاهات أخرى، وأخصّ الذين لهم علاقة بالدراسات الجامعيّة، فهم كانوا ظهيراً واضحاً في النشاطات الثقافيّة (قديماً)، وعنصراً فعالاً في الحضور والمناقشة، فأين هذا الجيلان الآن من مسألة الثقافة، والتي هي حاجة ضروريّة للخروج من الكثير من المناطق المُظلمة التي صبغها الفكر الرجعي بصبغته؟!.

تفقّدوا في أيّ نشاط ثقافي يُقام في أيّ مركز من المراكز الموصوفة بالثقافيّة، ولتنظروا كم عدد الحضور من أبناء هذين الجيلين، معظم الحضور من الجيل الذي فارق سنّ الشباب، ولن أتكلّم عن شباب الروح، فذلك ميدان آخر، حضور يطغى عليه مَن شابت شعورهم، وظهر تقدّم السنّ عليهم.

لقد انصرفت أجيال بكاملها إلى الموبايل، وبعض صفحات التواصل التي لا تُغني ولا تُسمن، وتقف مؤسّساتنا الثقافيّة شبه عاجزة، لأنّ النهوض الثقافي، بما يهدف إليه، وبما يُراهَن عليه يحتاج إلى استراتيجية تشترك فيها كل الجهات الثقافيّة والإعلاميّة للخروج من هذا المأزق، وهو أمر، أشرتُ في أكثر من مرّة إلى أنّه أشقّ وأقسى من إعادة إعمار ما تخرّب وتهدّم من بناء.

إنّ المؤسسات الثقافيّة، والتعليمية، والجامعيّة، والإعلاميّة قد تُشكّل بتآزرها، وبوضع خطّة تمتد على مدى سنوات، ربّما تشكّل رافعة لاسترجاع (بعض) أبنائنا من المناطق التي أوغلوا فيها، والتي ما تكاد تحمل من قيم الثقافة الحقّة ما يمكن أن يُطمأنّ إليه.

aaalnaem@gmail.com