تحقيقاتصحيفة البعث

“الفساد الروتيني” يدمر المؤسسات.. والخاسر الأكبر الخزينة والمواطن!

رغم مرور الزمن وتطور القواعد الاقتصادية في كافة البلدان، ورغم الأزمات التي عصفت باقتصادنا وقطاعاتنا التي أصبحت بحاجة ماسة لسرعة القرار والتخطيط والتنفيذ والاستغلال الأمثل للموارد، نكتشف كلّ يوم أننا ما زلنا نعاني من بعض الأمراض الإدارية فيما يخصّ التعامل مع الاستثمار التي لم تجد طريق الحلّ بعد، لا بل هي آخذة بالتفاقم في ظل ظروف هي الأسوأ. فما هي الحلول وهل نحن جادون بوضعها رغم تكرار المطالبات؟!.

الوجع واحد

الدكتور أحمد أديب أحمد الأستاذ في كلية الاقتصاد– جامعة تشرين، بيّن أن جميع مؤسساتنا ومنشآتنا العامة عانت وما زالت تعاني من مظاهر الروتين نفسها رغم التطور التقني والشبكي والرقمي، والوجع ما زال واحداً. وعلّل ذلك بقيام معظم المديرين والموظفين بالتمسّك بنصوص القواعد القانونية بغض النظر عن معناها وغاياتها التي تهدف لتسيير عمل المرافق العامة وحمايتها وتحقيق مصالحها، وتكون النتيجة وللأسف عرقلة أعمالها ومصالحها وسوء وبطء خدماتها المقدمة للمواطن، بل وفوق ذلك كله تظهر طبقة المستفيدين من هذا التعقيد والجمود، إذ يظهر المدير أو الموظف المرتشي الذي يعرض خدماته الخاصة ضمن المؤسسات العامة لمن يدفع أكثر، واعداً إياه بحلحلة أموره وترشيق معاملته بعد “دفع المعلوم”، فالمشكلة ليست في روتين تسلسل سير المعاملة، لأن ذلك مفروض بحكم القوانين، لكن الموضوع يتعلق بمدة مكوث المعاملة في كل مرحلة، ولهذا أسباب عديدة أبرزها الضبابية التي تحيط بالقوانين، مما يسمح للموظف الفاسد بالتلاعب مع المتعامل الذي يجهل هذه القوانين، وضعف أو غياب المحاسبة، أو ضعف آليات الرقابة، وانخفاض الرواتب مما يؤدي لانتشار الفساد، والرشوة، وبذلك يتحول الروتين إلى ما يُسمّى بـ”الفساد الروتيني”.

وأشار الدكتور أحمد إلى أن التأخر في المعاملات له انعكاس سلبي على المواطن، حيث يؤدي في بعض المعاملات إلى انتهاء المدة المتاحة لها، فيخسر المتعاقد الفرصة المتاحة له، أو يُكَلَّف بتكاليف إضافية قد تكون من خلال إعادة إجرائها من جديد، أو دفعه رشاوى ريثما تنجز المعاملة، مما يضعف إخلاص المواطن أو المتعاقد للمؤسّسات والجهات العامة، ويعزّز رغبته من تعويض خسارته منها بأية طريقة مستقبلاً.

أين الحل؟

وبرأي دكتور الاقتصاد أن الحلّ يكون بتعزيز التواصل بين المدراء وموظفيهم لعرض المشكلات والعمل على حلها بشكل مرن وسريع، إضافة إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة لمتطلبات العملية الإدارية كالحكومة الإلكترونية، والتراسل عبر البريد الإلكتروني لتسهيل المعاملات، كما أنه يجب إعطاء الصلاحيات والثقة للموظفين في العمل دون مصادرة روح المبادرة لديهم من قبل المستوى الإداري الأعلى، وبشكل لا يتعارض مع تحقيق المصلحتين العامة والخاصة على حدّ سواء، وعدم الإخلال بالعدالة في المعاملات.

ويرى الدكتور أحمد أن هناك حلولاً أخرى قد تخفّف من الروتين والفساد كالتي اتبعت مؤخراً في معاملات الجوازات، فالمراجع يمكن أن يكون مستعجلاً ويريد الحصول على معاملاته بشكل فوري واستثنائي، وبدلاً من اضطراره للرشوة وترجي الموظفين يمكنه دفع رسم أعلى للحصول على معاملاته بزمن قياسي، وفي الوقت نفسه يشعر المتعاقد بالعدالة، مشدداً على الاهتمام بتدريب الكوادر وتنمية خبراتهم لتسريع أعمال مؤسساتهم وفق أحدث الأساليب، لأن قلة استيعاب الموظف لأعمال مؤسسته وقلة وعيه بأهدافها وضعف وعيه بفكرة الصالح العام قد تسبّب المزيد من الجمود أيضاً.

شفافية غامضة

وطالب أستاذ الاقتصاد بزيادة الشفافية بين الجهات العامة والمواطن، وضرورة أن تقوم الحكومة بوضع خطة استثمارية لتجذب المستثمرين، مشيراً إلى أن الخطة الاستثمارية الحالية خجولة بسبب فقدان الشفافية، متسائلاً: عندما قرّرت الحكومة إعادة إقلاع مصانع السكر، هل تمّ وضع خطة متكاملة تبدأ من دعم زراعة المحصول في عدة مناطق، وتوفير كافة مستلزماته من إيصال المياه والري والنقل، ومنح القروض الزراعية؟.. وهل تمّ تفعيل التأمين الزراعي لزيادة ترغيب الفلاح بهذه الزراعات الإستراتيجية، أو تحديد طرق تقديم هذا الدعم، أو وضع سعر محصول الشوندر السكري النهائي المجزي؟.

إن كلّ تلك الأمور يجب دراستها في بند استثماري واحد هدفه توفير الاحتياج من السكر والحدّ من الاستيراد واستنزاف القطع، وعاد وتساءل: عندما يخرج وزير الصناعة أو أي مسؤول آخر ليصرح بأنه لا جدوى من تشغيل هذا المعمل أو ذاك أو عدم إقامة معمل كذا فهل هو يستند لدراسات جدوى، وهنا نكون قد وقعنا فيما يُسمّى بالجدوى الموجهة الهادفة لخدمة مستفيد معيّن كالتاجر أو المستورد على حساب القطاع الصناعي أو الزراعي أو مقدراتنا الوطنية من القطع الأجنبي.

ضعف المردود

أحد رجال الأعمال -فضّل عدم ذكر اسمه – بيّن أن صعوبة ضبط الأسعار في أسواقنا كافة، وتغيّراتها المستمرة تارة بحجة سعر الصرف، وتارة بحجج أخرى كارتفاع أسعار حوامل الطاقة، أدّت لإحجام الكثيرين عن التعاقد مع الجهات العامة التي تعتمد سعراً ثابتاً قد ينفر حتى الجهات العامة الأخرى عن التعاقد معها، بل يضاف إلى ذلك القواعد الإجرائية التي تجبر المتعاقد على الحصول على أمواله بعد زمن طويل، وعلى دفعات محدّدة السقف مهما علا المبلغ ومهما كانت صفة الساحب، متسائلاً: هل يعقل مساواة رجل الأعمال والمستورد مع أي مواطن عادي في مسألة تحديد سقف السحب اليومي؟، علماً أن رجل الأعمال يحتاج لرأسماله لاستخدامه في نشاطاته الأخرى، فإذا وضع كل رأسماله أو معظمه في مناقصة معيّنة ولم يتمّ الوفاء بالتزامات الجهة العامة له، فهذا يعني أنه سيجلس أشهراً بلا عمل بانتظار أمواله، مشيراً إلى أنه عانى شخصياً من خسائر كبيرة بسبب تلك التعقيدات، ورغم رغبته في خدمة كافة مؤسسات وشركات القطاع العام وإيمانه بدورها الرائد إلا أنه حالياً يفضّل التعامل مع القطاع الخاص.

من جهة أخرى يرى رجل الأعمال أن المؤسّسات والشركات العامة تتعامل مع الغير كتاجر وصناعي، وتنزل إلى الأسواق كتاجر وصناعي، فلماذا تحاط بكل تلك الامتيازات القانونية الإدارية التي تنفر المتعامل معها؟، ولماذا لا تؤخذ طبيعتها التجارية أو الصناعية بعين الاعتبار للتخفيف من تلك الضمانات والتي شرعت أساساً لحماية الأموال العامة، لكنها وعلى أرض الواقع تسبّب أضراراً كثيرة لتلك الأموال؟!!.

مسألة جوهرية أخرى أثارها رجل الأعمال تتعلق بعدم تقدير جهود المتعامل مع جهة عامة قائلاً: أنا كرجل أعمال قد اجتهد لاستيراد قطعة معيّنة لصيانة آلة أو خط إنتاج في منشأة صناعية عامة، ومن حقي الحصول على ثمن ما استوردته مع مربح جيد، لكن المفاجأة كانت اتهامي بالاستغلال والفساد وكثير من الأمور السلبية التي تهدف لشيطنة رجال الأعمال والتي يصدّقها الكثيرون في مجتمعنا بلا دليل.

ويتساءل رجل الأعمال هنا: إذا كانت الجهة العامة لا تشجّع روح الإبداع والابتكار لدى عاملها، فهل سيكون حالها أفضل مع التاجر أو رجل الأعمال؟، وبرأيه هذا كله أدى لانخفاض المنافسة في المناقصات العامة، وأصبحت لأسماء محدودة فقط، وهذا ينعكس خسائر فادحة على القطاع العام، مطالباً بتقديم تسهيلات استثمارية من خلال التمكين من صرف قيمة العقد مع الجهة العامة من البنوك بشكل خاص فور أمر الصرف، وتمديد فترة إغلاق المناقصة حسب قانون العقود لفترات طويلة لا تقلّ عن ٤٥– ٦٠ يوماً، ومنح تسهيلات في إصدار الكفالات الأولية والنهائية بشكل سريع بعيداً عن أية تعقيدات، والأهم من ذلك الالتزام بقانون العقود وتعديلاته، وخاصة ما يتعلق بعدم إرساء أي عقد وحيد إلا بعد الإعلان للمرة الثانية والثالثة كحدّ أدنى.

تبديد اليد العاملة!

في السياق ذاته نستغرب عند إجراء أي لقاء مع أي مدير أو مسؤول في وزارات تتضمن شركات ومؤسّسات رابحة كوزارة الصناعة استمرار الشكوى من وجود تسرّب ونقص في العمال واليد العاملة الخبيرة، والمفاجأة هنا أن تلك الشركات والمؤسّسات تحوي أعداداً هائلة من العمال المياومين الذي يعملون في ظروف تنتقص من قيمتهم الإنسانية لجهة عدم حصولهم على الحدّ الأدنى للأجور إضافة للحقوق الأخرى كالإجازات، والمذهل أكثر بوجود وزارة تلتزم الصمت الإعلامي كوزارة التنمية الإدارية التي غالباً ما يتذرّع الجميع بأنها الآمر الناهي والعقل المخطّط في مسائل التوظيف والمسابقات، دون إعلامنا عن خطتها وغايتها فيما يتعلق بهؤلاء المياومين، وسبب الإهمال المتعمد لحقوقهم، لتلقى الكرة مجدداً في ملعب اتحاد العمال الذي وعد مراراً وتكراراً بحلّ مشكلة المياومين الآخذة أعدادهم بالتزايد اليومي نظراً لتأخر الحل!.

ما سبق من هموم إدارية تضع الكثير من العراقيل أمام تطوير العمل وزيادة الإنتاج نأمل أن تلقى الاهتمام، فقد آن الأوان لأن نتخلّص من أمراضنا الإدارية المزمنة.

بشار محي الدين المحمد