مجلة البعث الأسبوعية

نتيجة النهج العدائي وحصيلة انتهاكات مبادئ القانون الدولي أحزاب ونواب أوروبيون يتهمون بلادهم بالتواطىء مع “داعش” لمنع عودة مواطنيهم

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

بعد أن أسدل الستار على مسرحية سجن الصناعة في الحسكة، والتي جرى خلالها هروب أو بالأحرى تهريب مجموعات كبيرة من “داعش”، خرجت أحزاب أوروبية لتحميل دولها الفشل في إعادة المواطنين الأوروبيين من سورية إلى وطنهم الأم، و رأت أن هذا الفشل هو نتيجة حتمية للنهج الخاطئ والعدائي الذي اعتمدته الدول الغربية منذ العام 2011 وحتى الآن، وبالتالي حصيلة جملة من الانتهاكات لمبادئ القانون الدولي وأحكام ميثاق الأمم المتحدة.

بريطانيا تتخلى عن أطفالها

ورغم المطالبات الكثيرة، تخلت بريطانيا عن مواطنيها، بمن فيهم الأطفال الصغار، في معسكرات تنظيم “داعش” في شمال سورية، وفقاً لتقرير جديد صدر عن مجموعة من النواب البريطانيين. هذه المجموعة البرلمانية المكونة من جميع الأحزاب والمعنيين بالاتجار بالبريطانيين في سورية، أمضت أكثر من ستة أشهر في الاستماع إلى شهادات من مسؤولين أمنيين سابقين، وجمع أدلة على سياسة بريطانيا في رفض إعادة الرعايا البريطانيين من سورية. تضم المجموعة برلمانيين من مختلف الأطياف السياسية، من كل من مجلس العموم ومجلس اللوردات، حيث عملت المجموعة المكونة من جميع الأحزاب مع منظمة حقوق الإنسان “ريبريف” لإجراء تحقيقها، وخلصوا إلى أن فشل بريطانيا في إعادة مواطنيها من سورية من شأنه أن يعرض الأمن القومي والعالمي للخطر، وأوصوا بأن تقوم بريطانيا على الفور بإعادة مواطنيها، بغض النظر عن الجنس أو العمر.

من بين الشهود الخبراء الذين تحدثوا إلى المجموعة، كان ريتشارد باريت، المدير السابق لعمليات مكافحة الإرهاب العالمية    MI6، وكريستوفر هارنيش، النائب السابق لمنسق مكافحة التطرف العنيف في وزارة الخارجية الأمريكية. كما أن هيومن رايتس ووتش، ومعهد العلاقات العرقية، ومنظمة إنقاذ الطفولة، ومركز “صوفان” من بين المجموعات التي قدمت أدلة مكتوبة إلى التحقيق الذي وجد أن العديد من النساء والأطفال الذين ذهبوا إلى “داعش ” تم إعدادهم أو إكراههم أو خداعهم للسفر إلى سورية. ووجد التحقيق أيضاً أن الحرمان من جنسيتهم “فُرض دون مبرر واضح للأمن القومي” ، حيث أوضح باريت أن حكومة المملكة المتحدة فشلت في الإشارة إلى المستوى الحقيقي للتهديد الذي يشكله الأفراد، ولماذا لم تستطع المملكة المتحدة الرد على أي من مثل هذا التهديد؟.

300 امرأة وطفل من فرنسا في معسكرات “داعش”

مثل العديد من مئات العائلات الفرنسية التي غادر أطفالها للانضمام إلى تنظيم “داعش”  لن يعرف جان مارك ومونيك، المزارعان المتقاعدان اللذين يعيشان في جبال أوفيرني في وسط فرنسا، لماذا ابنتهما ماتيلد أخذت زوجها وأطفالهما الأربعة الصغار للعيش لدى “داعش”. لبضع سنوات بعد اختفاء الأسرة الشابة في عام 2013 ، كان لديهما اتصال هاتفي متقطع، لكن في منتصف عام 2018 ، توقف الاتصال. قال جان مارك لموقع “ميدل ايست أي”: ” في أحد أيام تشرين الأول 2019 ، تلقى جان مارك رسالة من حفيدته الكبرى، سارة البالغة من العمر 15 عاماً. كانت في مخيم لعائلات “داعش” في الجزيرة السورية. بدأت قائلة: “جدتي العزيزة وجدي العزيز، هل سمعتما أني متزوجة ، وأن أمي وأبي وجميع إخوتي الصغار قتلوا؟”

في الرسالة الطويلة، أوضحت سارة أنها في سن 13 عاماً تزوّجت من مغربي يبلغ من العمر 17 عاماً. بعد ذلك بعامين، في خضم معركة دامية في الباغوز، شاهدت هي وعائلتها جندياً يدخل شقتهم ويقتل والدهم، وهو مقاتل من “داعش” ، من مسافة قريبة. رأت سارة مع زوجها بعد أسابيع طائرة فرنسية تلقي بقنبلة على المبنى الذي تعيش فيه والدتها وإخوتها، مما أسفر عن مقتلهم جميعاً. بعد شهر من ذلك، شاهدت سارة زوجها يموت بعد أن أطلق عليه قناص الرصاص أثناء ذهابه لإحضار الماء.

لسنوات، حاولت سارة ومئات من النساء والأطفال الفرنسيين البقاء على قيد الحياة في معسكرات اعتقال “داعش” في ظروف سيئة للغاية قد تصل إلى حد التعذيب، وفقاً للأمم المتحدة. عندما سيطرت قوات “قسد” العميلة على الباغوز في آذار 2019 بدعم من الولايات المتحدة، تدفق عشرات الآلاف من المدينة المدمرة. وبحسب أرقام المنظمات الدولية هناك ما يقرب من 10000 رجل ومئات المراهقين الآخرين محتجزون في 14 سجناً مكتظاً في منطقة الحسكة شمال شرق سورية. النساء والأطفال، بما في ذلك الأيتام مثل سارة، يعيشون في مخيمين متراميي الأطراف، الروج والهول، اللذين باتا موطناً لنحو 60 ألف شخص: حوالي 20 ألف من سورية ، و 31 ألف من العراق، وما يصل إلى 12 ألف من البلدان الأخرى: 4000 امرأة و 8000 طفل. لقد حثت الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي وجماعات حقوقية لا حصر على إعادة مواطنيها، لكن العديد من الحكومات مترددة في إعادة المواطنين الذين ربما كانت لهم صلات بالجماعة الارهابية.

“غوانتانامو للأطفال”

وثقت الأمم المتحدة حالات “التطرف” والتدريب في مخيمات الاعتقال، محذرة من أن الأطفال الأجانب يتم “إعدادهم” ليكونوا عناصر مستقبلية لـ “داعش”. و في أواخر كانون الثاني الماضي ، هاجم مئات من مقاتلي “داعش” سجن الصناعة في الحسكة لإطلاق سراح رفاقهم الأسرى. وكان مئات الأطفال من جنسيات مختلفة من بين الآلاف الذين يعيشون في ظروف قاسية في سجن الغويران، وبحسب ما ورد استخدم البعض “كدروع بشرية” أثناء الهجوم.

تأمل العائلات والمدافعون عن حقوق الإنسان في أن إدانة محتملة للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ستجبر فرنسا – ودول أوروبية أخرى – على إعادة مواطنيهم أخيراً إلى بلدانهم، مما يشكل سابقة.  ويبدو أن الزخم يتزايد، ففي الأشهر الأخيرة ، أعادت دول كانت متحفظة في السابق مثل بلجيكا وألمانيا والدنمارك رعاياها. وفي فرنسا، دعا عدد متزايد من شخصيات المجتمع المدني والسياسيين والجماعات الحقوقية إلى الإعادة إلى الوطن. لكن تخشى العائلات من أن الحكومة الفرنسية، التي تشعر بالقلق من رد الفعل العنيف، لن تتصرف – إذا حدث ذلك – قبل الانتخابات العامة في نيسان القادم أو الانتخابات التشريعية بعد شهرين.

وهنا تقول المحامية ماري دوز إنها تحدثت إلى أعضاء حكومة إيمانويل ماكرون حول سبب عدم عودة مواطني فرنسا إلى الوطن، وقالت: “ليس لديهم أي حجة سوى الرأي العام”. وأضافت “لا أعرف متى تركنا أطفالاً في منطقة حرب في التاريخ الفرنسي. إنها واحدة من أكثر اللحظات المخزية في التاريخ الفرنسي المعاصر”.

أما في بريطانيا، تدعو “جماعة المناصرة” إلى إعادة النساء والأطفال البريطانيين المحتجزين لسنوات في معسكرات اعتقال لأقارب أرهابيي “داعش”، حيث أفاد تقرير أصدرته منظمة “هيومن رايتس آند سيكيوريتي إنترناشونال” (RSI) أن ظروف الاعتقال التي يتعرض لها الأطفال والنساء البريطانيون في مخيمي الهول والروج ترقى بشكل تراكمي إلى مستوى التعذيب. وأفادت منظمة  (RSI)أن النساء والأطفال المحتجزين في المخيمات معرضون باستمرار لخطر العنف والاستغلال والمرض والموت ، أثناء “الاحتجاز التعسفي” دون توجيه تهم إليهم.

وقالت سارة سانت فينسنت، المديرة التنفيذية لـ (RSI) لا ينبغي التخلي عن أي شخص للتعذيب والموت، ناهيك عن الصور النمطية المعادية للإسلام أو الافتراضات غير المثبتة. وسبق أن وصف خبراء الأمم المتحدة الظروف في معسكرات الاعتقال بأنها “آفة على ضمير الإنسانية”. وقال فنسنت: “الحظر الدولي على التعذيب مطلق وأساسي، وتخاطر الحكومة البريطانية بفقدان مصداقيتها بشأن هذه القضايا بالتخلي عن الناس – بمن فيهم الأطفال الصغار – في ظروف مؤلمة ومهددة للحياة لسنوات”.

على الدول استعادة مواطنيها

ظل مصير الأجانب المحتجزين في المعسكرات، ومعظمهم من النساء والأطفال، سؤالاً عالقاً للعديد من البلدان مثل بريطانيا وفرنسا، التي تحجم عن إعادة المواطنين، لا بل هناك حقيقة أن بعض النساء المحتجزات جُردن من جنسيتهن من قبل بلدانهن الأصلية، مما أدى إلى إبعادهن عن وسائل الطعن في احتجازهن في المخيم.

تقول “هيومن رايتس ووتش” إن نحو 43 ألف أجنبي من الرجال، والنساء، والأطفال ما زالوا محتجزين في ظروف لا إنسانية أو مهينة، وهذا يحدث غالباً بموافقة صريحة أو ضمنية من الدول التي يحملون جنسياتها. لم يمثل المعتقلون الأجانب أمام محكمة، ما يجعل احتجازهم تعسفيا وإلى أجل غير مسمى. بينهم 27,500 طفل، معظمهم في مخيمات مغلقة، و300 على الأقل في سجون مزرية للرجال، وعشرات آخرون في مركز مغلق لإعادة التأهيل.

قالت ليتا تايلر، مديرة مشاركة في قسم الأزمات والنزاع في “هيومن رايتس ووتش”: “يدخل الرجال والنساء والأطفال من جميع أنحاء العالم عاماً آخر من الاحتجاز غير القانوني، بينما تغض حكوماتهم الطرف. على الحكومات أن تساعد في تأمين محاكمة عادلة للمعتقلين المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة وإطلاق سراح أي شخص آخر، وليس المساعدة في خلق “غوانتانامو جديد”.

وقالت “هيومن رايتس ووتش” إن الحكومات الفاعلة في هذا الحبس التعسفي قد تكون متواطئة في الاحتجاز غير القانوني والعقاب الجماعي لآلاف الأشخاص، ومعظمهم من النساء والأطفال الصغار. لكن العديد من الحكومات تؤكد أن عمليات الإعادة إلى الوطن تطرح مخاطر أمنية فائقة. تقول هيومن رايتس ووتش إنه في حين أن الحكومات ملزمة بالحفاظ على سلامة الناس، لا تلغي المخاوف الأمنية واجبها الموازي في دعم حقوق الإنسان.  وفي غياب وسيلة للمغادرة قانونياً، تدفع النساء بانتظام لمُهربي البشر لتهريبهن وأطفالهن من المخيمات المغلقة، ما يعرضهن لخطر الاتجار بهن للعمل القسري والاستغلال، وانتهاكات أخرى، أو للعودة إلى “داعش”. قد يكون الأطفال، الذين تنبذهم بلدانهم الأصلية، عرضة للتجنيد من قبل إراهابيي “داعش” في السجون والمخيمات. في المقابل، تسمح عمليات الإعادة إلى الوطن أو النقل إلى دول أخرى للحكومات بإجراء تقييمات فردية لكل عائد، ومراقبتهم حسب الاقتضاء، ومحاسبة الذين ارتكبوا جرائم دولية خطيرة في مجال حقوق الإنسان.

في كانون الثاني الماضي، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عمليات الإعادة إلى الوطن من قبل البلدان الأصلية، لا سيما للأطفال، بأنها “ضرورة ملحة وإستراتيجية لمكافحة الإرهاب”. كما دعا البرلمان الأوروبي و”اليونيسف” الدول الأعضاء إلى إعادة جميع الأطفال إلى أوطانهم، مع مراعاة مصالح الطفل الفضلى. ودعت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومدير مكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة، و22 خبيراً حقوقياً أممياً، البلدان الأصلية إلى إعادة مواطنيها أيضاً، حيث أشار الخبراء الـ 22 إلى أن “العنف، والاستغلال، والإساءة، والحرمان” الذي تعرّض له المحتجزون الأجانب في سورية أسفر عن وفيات، وأنه في حد ذاته “قد يرقى إلى حد التعذيب أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية، أو اللا إنسانية، أو المهينة بموجب القانون الدولي”، في غياب جبر فعّال.

المعايير القانونية الدولية

تتحمل الدول مسؤولية اتخاذ خطوات لحماية مواطنيها لدى مواجهتهم انتهاكات حقوقية خطيرة، بما فيها الخسائر في الأرواح والتعذيب. قد يشمل هذا الالتزام المواطنين في البلدان الأجنبية عندما يمكن للإجراءات المعقولة التي تتخذها حكوماتهم الأصلية حمايتهم من هذا الضرر. ينص “القانون الدولي لحقوق الإنسان” على حق كلّ فرد في الجنسية. أمام الحكومات التزام قانوني دولي بتوفير الوصول إلى الجنسية لجميع الأطفال المولودين في الخارج لأحد مواطنيها، والذين يكونون عديمي الجنسية خلاف ذلك، في أقرب وقت ممكن. ولجميع الأفراد الحق في الغذاء الكافي، والماء، والملبس، والمأوى، والصحة العقلية والبدنية، والمحاكمات العادلة، ولجميع الأطفال الحق في التعليم.

لذلك يُعتبر احتجاز هؤلاء الأجانب إلى أجل غير مسمى من دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، بما في ذلك حقهم في المثول أمام قاضٍ لمراجعة شرعية وضرورة احتجازهم، تعسفياً وغير قانوني.