ثقافةصحيفة البعث

المقدمات الذكية في كتابة أمين الساطي

تبدو المقدمات الذكية واضحة وجلية في رواية أمين الساطي التي تحمل عنوان “شوارع الغضب” التي تأتي بعد رواية “نبوءة على التلفاز”، وبعد مجموعتين قصصيتين هما “الممسوسة” و”وأوهام حقيقية”. وقد أثبت في كل أعماله السابقة كما في هذا العمل الذي بين أيدينا جدارته في تقديم عالمه الفني الذي يمزجه بالواقع ليصبح الفصل بين الأمرين فيه الكثير من الصعوبة، حيث الطيران إلى المجهول والتحليق في المطارح الشاسعة، ومن ثم الرجوع إلى الواقع الرجراج والرخو الذي لا ينفصل عن عوالمه الفنية الحائمة في الأمداء الفسيحة.

وفي العودة إلى رواية “شوارع الغضب” نجد الكاتب يدفعنا بحيله الفنية المراوغة للولوج إلى عالمه الروائي، فها هو يقول في بداية الرواية: “مازلت ممدداً على سرير العمليات في المستشفى وأنا أسمع صوت الطبيب الجراح يهمس في أذني. يقول لمساعده سنجري فتحة الشق على جانب فخذه الأيسر بطول عشرة سنتمترات”، وهو يعود في الصفحات التالية ليصف حالة الخوف والهلع من العمل الجراحي، ثم يدخل بعد فقدان الوعي ليرى المرحومة زوجته وخالته بدرية التي تطلب منه العودة إلى جسمه في غرفة العمليات كي لا يترك ابنته وحدها في الظروف القاسية التي ستمر على لبنان، وهو بذلك يمهد لنا الطريق لأن أرض روايته أو ملعبها الأساس في لبنان ومن ساحة رياض الصلح في بيروت على وجه التحديد تبدأ أحداثها.

هذه البدايات تبدو وكأنها تدفعنا دفعاً أو تجرّ رجلنا كما يقولون لنقرأ الرواية ونمعن في تفاصيلها وتبدو محيرة أيضاً، إذ يقول: “أخرجت نفساً عميقاً من صدري، وشاهدت دخان سيجارة الحشيش الأبيض، يتلوى بصمت راسماً فقاعات من الهواء بشكل متناسق وجميل قبل أن يتلاشى في طريقه نحو سقف الغرفة”. وهذه الحالة يعود ليمزجها مع الواقع في الفقرة التالية: “إن الملل من جلوسي بالبيت لفترات طويلة بعد إجراء عمليتي الجراحية يدفعني رغماً عني لتخدير نفسي بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية ومباريات كرة القدم”، وفي ذلك محاولة جادة، ليقنعنا أن الأمور قد اختلطت لديه وهو غير واعٍ لما يحصل في حياته: “إن المستويات العالية من هرمون التوتر الذي أعانيه، أدى إلى توقف العمل في بعض العمليات الذهنية في مخي، ما جعلني أجد بعض الصعوبات في التمييز بين الخيال والحقيقة”.

ومن خلال هذه العجالة لا نستطيع تقديم أكثر من أمثلة بسيطة عن البدايات التي يمهد بها الروائي طريقه للولوج إلى معترك لعبته الفنية، وهو في هذه الرواية كما في أعماله السردية السابقة يربط شخصيته الرئيسة بالحالة الاقتصادية والمعيشة: “راتبي.. يكاد يكفيني لإعالة نفسي حيث إنني أعيش في بيت صغير يتألف من غرفتي نوم وصالة كنت قد ورثته عن المرحومة أمي”.

وربما هذه الظروف بالذات كما يريد أن يبرر الكاتب هي من دفع بطله للذهاب إلى ساحة رياض الصلح والمشاركة في المظاهرات وهناك عثر بالمصادفة على “أبو أيمن” الذي تعطل عمله بسبب الأحداث الجارية في لبنان، وقد وجد في ذلك الفرصة المناسبة لزيادة دخله بعد أن تعرف إلى صديقه الجديد حيث علمه على الاتجار بحبوب “الكبتاجون” في ظل انهيار الليرة اللبنانية وازدياد قيمة العملات الأجنبية، والأوضاع المضطربة التي أدت إلى صدامات بين قوى الجيش والأمن والشرطة من جهة والمتظاهرين الذين دفعتهم الظروف الخانقة والغلاء للمطالبة بالتغيير.

لقد تطورت حالة البطل بعد ذلك إذ أصبح متعاطياً ومروجاً في آن: “في الصباح التقيت مع أبو أيمن وطلبت منه أن يعطيني خمسين حبة كبتاجون مقابل خمسين دولاراً”، ويشير إلى اشتراكه مع بعض المتظاهرين في نهب بعض المحال التجارية بعد تكسيرها وتخريبها ومحاولة تصريف البضاعة المنهوبة كما يشير في الصفحتين “29ـ 30” وبعدها يتم اللجوء إلى العرافة الشهيرة في بيروت لتستطلع لهما السبل الأكثر نجاحاً للحصول على المال بعدها اشتغلا بتزوير العملة أو الدولار الأسود كما يطلق عليه، لكن خطورة العمل في هذا المجال تعيده مع شريكه إلى تجارة الممنوع، حيث يشاركان في العديد من الصفقات التي تجري ويجنيان منها الكثير من الأموال بالتعاون مع زعامات المال التي تشتغل في هذا المجال، ثم تجري الأحداث التي تؤدي إلى مقتل بعض الشخصيات التي تشارك في تجارة المخدرات ومنهم صديق البطل “أبو أيمن” و”أبو غسان” و”أبو أيمن” نتيجة الكمائن والكيد الذي تنصبه بعض العصابات والنزاع الدائر بين زعماء العشائر والميليشيات التي يزداد نفوذها في المناطق البعيدة عن المركز في ظروف ضعف الدولة وهشاشة سلطتها.

أحداث ومغامرات وشخصيات كثيرة يتعامل معها البطل، لكن الكاتب أمين الساطي يعيدنا مجدداً إلى لعبة الإيهام فما مر به البطل وحتى في زواجه من سعاد قد يكون حدث، ولم يحدث، في الآن ذاته، حيث يقول الكاتب في السطور الأخيرة من الرواية على لسان بطله: “سمح الطبيب لعائلتي بالدخول إلى غرفتي وكان أول ما شاهدته وجه ابنتي وزوجها”. ويقول في مكان آخر من هذه السطور: “بعد بضع دقائق دخلت ناديا ولما رأتني ممدداً على السرير انفجرت في البكاء واقتربت مني ومررت أناملها برفق على خدي، فشعرت بحبها ينساب في عروقي. لقد مضى عليها يومان وهي جالسة في ردهة الانتظار”، وهذه النهاية تعيدنا مجدداً إلى البداية وتحيلنا إلى الممازجة الفائقة والخط الرفيع بين الواقع والمتخيل الذي سارت عليه هذه الكتابة والتي يتقنها مؤلف رواية “شوارع الغضب” أمين الساطي.

محمد الحفري