الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

السيرة الذاتية.. كشّافة وأكثر!

حسن حميد 

كنت في منتدى ثقافي مهمّ، والحوار فيه يدور حول مشيمة الإبداع، أو قلْ حول المدارس التي تقصّت مكامن الإبداع وأسراره، وكان المتحاورون من أهل الثقافة والإبداع والرأي المعدودين، أي أهل المعرفة الحقّة من دون ترويج أو ضجيج.

وقد اتفق الجميع على أن الإبداع سمة بشرية لا تخصّ منطقة جغرافية أو عرقاً بشرياً، أو لوناً، أو مذهباً، فأهل البحار والأنهار والبحيرات يبدعون، وأهل الصحارى والبراري يبدعون، وحملة الألوان المتعدّدة يبدعون، والرجل يبدع مثلما تبدع المرأة، والظروف والأحوال، استقراراً وتقلباً، تلعب أدواراً مهمة في تظهير الإبداع.

ما لم يتفق عليه المتحاورون تمثل بأهمية السيرة الذاتية للمبدع وتأثيرها في الإبداع، وهل معرفتها ضرورية أم لا؟! وأين تكمن هذه الضرورية؟! وهل يكفي أن أقرأ قصائد امرئ القيس فقط ولا التفت إلى سيرته، أو أقرأ قصائد عنترة بن شداد فقط ولا التفت إلى سيرته لكي أعرف أهمية المنجز الإبداعي لكل منهما!. ولم يصل المتحاورون إلى نقاط مشتركة تقرّ بأهمية معرفة السيرة الذاتية للمبدع، لا بل إن بعضهم قال: ما الذي نستفيده من معرفة السيرة الذاتية لشكسبير بعد أن قرأت إبداعه، أو قبل أن أقرأ إبداعه، وما الذي تضيفه معرفة السيرة الذاتية لنجيب محفوظ لإبداعه الروائي والقصصي؟! والحق، وبعيداً عن التشنج، وهزّات الرؤوس الحامية، أقول: ما الذي يعيب على القارئ إن أدرك السيرة الذاتية للمبدع الذي يقرأ له، وما الذي تثقله عليه؟! وهل تسيء معرفة السيرة الذاتية للمبدع في الوصول إلى إبداعه؟! أم أنها تفيد في فتح السبل والنوافذ والأبواب لمعرفة غوامض إبداعه وأسراره؟!

في ظني، لا كاشف لأهمية الإبداع المنجز مثل النور المنبعث من السيرة الذاتية، وهذا الأمر ليس مطلقاً، ولكنه عام، فمعرفة السيرة الذاتية لكاتب مثل غوته الألماني (-) تضيء مسارات إبداعه كلّه، ولاسيما روايته الأعلى قيمة “فاوست”، فهو اعتنى بأسئلة الحياة الكبرى لأنه فرغ من طرح الأسئلة المتعلقة بالحاجة، فمضى إلى الأسئلة المتعلقة بالأحلام الكبيرة، أي انتهى من الأسئلة التي يقودها الإبصار، إلى الأسئلة التي تقودها البصيرة. فالسؤال عن السعادة والخلود والمآلات الكبرى ليست أسئلة احتياجات دنيوية وإنما هي أهم من ذلك بكثير حين تبحث عن أجوبة مثل: ما قيمة الشهرة، والسلطة، والرفاه، والعمل، والأخلاق، والقيم النبيلة في الحياة المعيشة، أي المدركة دنيوياً؟!

إن معرفة السيرة الذاتية لغوته كمثال، تقود إلى تفكيك موضوعة إبداعه من جهة، وتفكيك بنية النصوص الصعبة التي كتبها، بقولة أخرى إن خطوط الهندسة التي عرفتها السيرة الذاتية لغوته، سواء في توازيها أو تقاطعاتها أو عموديتها أو أفقيتها هي التي رسمت خطوط الهندسة التي عرفها إبداعه، ومثل هذا الأمر يبدو جلياً أيضاً حين يقرن القارئ سيرة الحياة الذاتية لمكسيم غوركي (1868 – 1936)، وما أبدعه من نصوص!

فالسيرة الذاتية للمبدع مهمّة جداً، ومعرفتها ليست مرهقة في أي شيء، لا للقارئ ولا للناقد، بل هي يد معوان ليكتشف كلٌّ منهما الهندسة الداخلية للنصوص التي أبدعها لأن في السيرة الذاتية للمبدع مكامن ثقافته، وجذور مواقفه، والعتبات الأولى للقيم التي تبناها وشُغل بها.

وأرى أنه من غير معرفة السيرة الذاتية لمبدعين كبار مثل دوستويفسكي، وتولستوي، وغوركي، وكافكا، وبروست، وجيمس جويس، والمتنبي، والمعري، والكثير من مبدعي المعاصرة أيضاً، ستظلّ معرفة نصوصهم معرفة يكتنفها الكثير من الغموض والبهمة لأننا لا نستطيع إدراك مرجعياتها كلّها التي هي موجودة أصلاً في صلب السيرة الذاتية لكلّ واحد منهم.

Hasanhamid55@yahoo.com