دراساتصحيفة البعث

أوروبا تعاقب وتدمر نفسها!

ترجمة: هيفاء علي

في عام 1979، تسبّبت الاضطرابات في الشرق الأوسط بارتفاع أسعار الطاقة (كما هي الحال اليوم)، وبانهيار الاقتصادات الغربية. وبغضّ النظر عما سيحدث في الأيام القليلة المقبلة فقد كان مؤتمر بوتين الصحفي القصير في 22 شباط الماضي بمثابة إعلان عن “التدمير البنّاء” للنظام العالمي القديم بشكل أسرع مما هو متوقع، أي نهاية الأوهام ونهاية فكرة أن النظام الذي تفرضه الولايات المتحدة والقائم على القواعد هو دائماً خيار.

لماذا غضب الغرب؟ يتساءل المراقبون والذين يجيبون على الفور، بكل بساطة، أن هذا الغرب ليس لديه نيّة ولا القدرة على مواجهة تحركات روسيا عسكرياً. وبالنسبة لأوروبا، فإن فرض نظام عقوبات على روسيا سوف ينعكس بقوة على أوروبا التي تواجه ركوداً وأزمة طاقة موجودة مسبقاً، وسوف تتفاقم بشكل كبير بسبب قيام ألمانيا بتقديم “نورد ستريم 2” كأضحية لآلهة الانتقام. في حين أن التضخم المتصاعد الذي تفاقم بسبب سعر النفط 100 دولار، يتسبّب في أزمة بأسعار الفائدة والسندات السيادية، ورغم ذلك، فرضت أوروبا العقوبات على روسيا بعد تعرّضها لضغوط أمريكية كثيفة، والتي من شأنها التأثير بشكل مباشر على جيوب الأوروبيين.

تخوض بعض الدول الأوروبية معركة خلفية للحدّ من العقوبات التي قد تؤدي إلى تفاقم الركود الأوروبي المقبل. لذلك، وبحسب خبراء الاقتصاد الأوربيين، فإن أوروبا تفرض عقوبات على نفسها وسوف تعاني أكثر من غيرها من عقوباتها، وقد وعدت موسكو بالردّ على هذه العقوبات بطريقة قاسية قد تلحق الضرر بالولايات المتحدة وأوروبا. وبحسب هؤلاء الخبراء، يجب أن يفسّر هذا الاحتمال والعجز في مواجهة الكثير من إحباط وغضب الأوروبيين، بينما تزعم واشنطن أن لديها “سلاحاً قاتلاً” يستهدف موسكو والمتمثل بفرض عقوبات على رقائق أشباه الموصلات.

باختصار، يمكن لسيطرة موسكو على المعادن الاستراتيجية الرئيسية أن تمنحها نفوذاً يمكن مقارنته بسيطرة “أوبك” الخانقة على الطاقة في عام 1973. هذا هو المكان الذي يكمن فيه الجزء الثاني من إحباط أوروبا: الاعتراف الضمني بسياسة بايدن تجاه أوكرانيا، وفشل الدبلوماسية الغربية التي تتعامل مع الشكل، دون أي معالجة جوهرية للمشكلات الأساسية، بالإضافة إلى تعامل ألمانيا المتقلب مع قضية “نورد ستريم 2″. المحور الثالث أكثر تعقيداً وينعكس في صرخة جوزيف بوريل الساخطة بأن روسيا والصين تحاولان تغيير النظام العالمي الحالي. و”الخوف” الأوروبي لا يستند فقط إلى محتوى بيان بكين المشترك، ولكن أيضاً على حقيقة أن الرئيس بوتين طوال حياته لم يلقِ خطاباً مثل خطابه الأخير أمام الشعب الروسي. كما أنه لم يخصّص قط الأمريكيين بصفتهم العدو القومي لروسيا بمثل هذه المصطلحات الروسية الواضحة: “الوعود الأمريكية لا قيمة لها، النوايا الأمريكية قاتلة، الخطب الأمريكية أكاذيب، الأفعال الأمريكية ترهيب وابتزاز”.

يبدو أن الأوروبيين بدؤوا بفهم أبعاد نقطة التحول التي يمثلها خطاب بوتين، والذي تمّ تأطيره حول أوكرانيا، لكن هذه القضية الأخيرة -رغم أهميتها- هي ثانوية لقرار روسيا والصين بتغيير التوازن الجيوسياسي والبنية الأمنية للعالم إلى الأبد، وما الاعتراف بجمهوريتي دونباس، لوغانسك، ودونيستيك، سوى مظهر من مظاهر هذا القرار الجيوستراتيجي السابق.

هذا هو أول تجسيد لهذا الانفصال الروسي عن الغرب وكشف النقاب عن تجميع روسيا للإجراءات “الفنية العسكرية” التي تهدف إلى فرض تقسيم العالم إلى مجالين مختلفين: الأول كان الاعتراف بالجمهوريات، وكان الإجراء العسكري التقني الثاني هو خطاب بوتين، أما الإجراء الثالث فهو العملية العسكرية في دونباس. بالطبع، لا تعتقد واشنطن أن الرئيسين شي وبوتين يمكن أن يعنيا ما يقولانه، وبطريقة أقل دبلوماسية، استنتجت روسيا والصين أنه لم يعد من الممكن تشارك مجتمع عالمي مع أمريكا المصمّمة على فرض نظام عالمي مهيمن، وبالتالي، يقصد بوتين ما قاله: “روسيا تسند ظهرها للجدار، ولم يعد هناك مكان تتراجع فيه، فالتهديد لها موجود”.

إن رفض الغرب الاعتراف بأن بوتين “صادق” يوحي بأن هذه الأزمة ستبقى على الأقل للعامين المقبلين، وهي بداية مرحلة مطولة من الجهود التي تقودها روسيا والصين لتغيير الهيكل الأمني ​​الأوروبي إلى شكل جديد، وهو ما يرفضه الغرب حالياً.