مجلة البعث الأسبوعية

الاقتصاد الوطني ليس بمنأى عنها.. أزمة معيشة عالمية خانقة تضع الحكومة على محك تصويب السياسات الزراعية

البعث الأسبوعية– حسن النابلسي

تحتم الظروف الاقتصادية الحالية –سواء المحلية أم الإقليمية أم العالمية- على أصحاب القرار الاقتصادي توجيه بوصلة العمل باتجاه القطاع الزراعي، وحشد الإمكانيات كافة لتعزيز ودعم هذا القطاع، فهو بلا أدنى شك الورقة الرابحة لأي اقتصاد دولة كونه الأجدر بتحقيق الأمن الغذائي، خاصة في ظل ما تشهده الساحة العالمية من توترات وتجاذبات سياسية أثرت على الاقتصاد العالمي، جعلت العالم ككل والعالم العربي بشكل خاص -وفق تقارير دولية- يترقب، أزمة معيشية خانقة في ظل الحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، مع الإشارة إلى أنه سبق ذلك تحذيرات صاغتها بعض التقارير الصادرة عن منظمات دولية عدة تلوح بأزمة غذائية عالمية في الأفق نتيجة للتغيرات المناخية التي تجتاح العالم.

هذا الوضع الخطير، يضع الحكومة قاطبة، ووزارة الزراعة خاصة، على محك توجيه الاهتمام وتركيزه على وضع السياسات الزراعية الكفيلة بإنتاج أفضل المحاصيل بحيث لا يتأثر الإنتاج الكلي قدر المستطاع، أو يستعاض عن بعض المحاصيل بأخرى تتناسب وتقلبات المناخ الأخيرة بشكل يضمن سيرورة الإنتاج ويحقق أكبر قدر ممكن منه.

ورقة رابحة ولكن..!

في الوقت الذي تُصنف فيه سورية من الدول الزراعية ولاسيما لجهة ما تنتجه من المحاصيل الإستراتيجية التي تشكل بالفعل ورقة رابحة بيد صناع القرار لما تجنبهم كثير من الضغوط الخارجية، نجد أن السياسة الزراعية تواجه كثير من الانتقادات التي توصف تارة بالمتخبطة والعشوائية على اعتبار عدم وجود خطة زراعية واضحة تلزم المزارعين باعتمادها وتطبيقها كما يجب، وتارة أخرى بالمزاجية كون القائمين عليها لا يحددون أهدافاً تكتيكية وإستراتيجية تمكنهم من تحقيق الاحتياجات الحقيقية من المنتجات الزراعية للبلد، لاسيما في ظل نتاقص الموارد المائية حيث هناك الكثير من المحاصيل تستنزف هذه الثروة دون وجود خطة أو برنامج يحددان آلية لاستغلال الموارد المائية بشكل أمثل يحقق الجدوى الاقتصادية المطلوبة.

استخلاص

“البعث الأسبوعية” استخلصت آراء بعض الباحثين الزراعيين حول هذا الموضوع، نضعها برسم وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، عسى أن تؤخذ بعين الاعتبار.. ونبدأ بمن ينفي وجود أي تخبط في السياسة الزراعية خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار إمكانيات البلد بشكل عام وما يمكن تخصيصه للزراعة، فبذلك يمكن الحكم على مدى نجاح أو فشل السياسة الزراعية، فمن الناحية الإنتاجيةإذا راقبنا ماذا يعطى من دعم وإمكانيات ويخصص من موارد للزراعة، نجدها ناجحة، فمثلاً لدينا اكتفاء نسبي من القمح -علماً أننا وصلنا في مرحلة ما قبل الأزمة إلى حد الاكتفاء الذاتي- إضافة إلى منتجات أخرى كالحمضيات والخضروات ومن كثير من أصناف الفاكهة التي لم تكن موجودة سابقاً.

مأخذ

اعتبر من ينفي “وجود تخبط في السياسة الزراعية” أن أبرز مأخذ على سياساتنا الزراعية هو عدم قدرة القائمين على قطاع الزراعة على حماية الموارد خاصة المائية منها (الجوفية – المسطحات) وذلك نتيجة الاستغلال الجائر للتربة في بعض المناطق، حيث ينخفض معدل المياه الجوفية 1م3 سنوياً، وهذا استنزاف خطير، فالمشاريع ذات العمق الكبير وغير الاقتصادية من المفروض إزالة الدعم عنها ولا تُزرع إلا بزراعات معينة، والدولة تساهم بشكل غير مباشر في هذا الأمر عبر إعطاءها التراخيص لحفر آبار في مناطق قد تكون المياه الجوفية فيها عميقة واستخراجها مكلف، أو قليلة وقابلة للنضوب بغض النظر عن وجود المحاصيل الإستراتيجية (القمح – القطن – الشوندر السكري) وأكبر دليل على ذلك أن كثير من مناطق الجزيرة خضعت لدراسات من الإيكاردا ومنظمات أخرى وبالأخص تلك التي تشهد ارتفاعاً بدرجات الحرارة وقلة بالهطولات المطرية نوعاً ما، حيث حُفر في أراضيها العديد من الآبار واستغلت لزراعة القطن وكانت النتيجة تملح التربة بسبب غض الدولة النظر وتشجيعها لحفر الآبار، مبرراً أن ظروف الفلاحين المعيشية تضطر الدولة إلى دعمهم، فالقطن على سبيل المثال يجب أن تحدد زراعته إما في المناطق التي تروى بمياه الأنهار ومصادر الري السطحية الأخرى، أو أن يستبدل بمحاصيل لا تستهلك المياه الجوفية..وخلص مناصرو “السياسة الزراعية” إلى أنه من حيث النتيجة كمدخلات ومخرجات الوضع لا بأس به.

لابد من توزيع ملائم

لعل أهم ما يجب أخذه بعين الاعتبار في سياساتنا الزراعية–وفقاً للمتحفظين من الباحثين على السياسة الزراعية- هو الاستغناء عن المنتجات غير المجدية اقتصادياً واستبدالها بأخرى ذات جدوى عالية، أو توزيعها على المناطق الملائمة أكثر لإنتاجها، إضافة إلى ضرورة التركيز على مدى مكافئة المنتج الزراعي وموازاته للطاقة التصنيعية الموجودة لدينا بحيث تستوعب كل ما يتم إنتاجه، بمعنى يجب العمل على تحقيق القيمة المضافة العالية من منتجاتنا بحيث نحرص على تصديرها مصنعة بدلاً من تصديرها خاماً، فهناك مشاريع  إنتاجية يجب أن تلغى تماماً كالمسامك الموجودة في سهل الغاب والمعتمدة بشكل كبير على المياه الجوفية، حيث يتم ضخها 24 ساعة متواصلة لتغذية هذه المسامك وهو أمر غير مقبول،لأن ما يستخرج من باطن الأرض لا يعوض بسهولة، حيث يفترض أن يكون الاستجرار على قدر الوارد لتأمين تغذية المياه الجوفية، وبالتالي تأمين الأجيال اللاحقة..!.

واستشهد “فريق المتحفظين” بما حدث في السلمية خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إذ انتشرت زراعة القطن -والدولة في تلك الفترة لم تكن منتبهة لهذا الموضوع- وكانت النتيجة أنه خلال عقد من الزمن لم يبق مياهاً جوفية في تلك المنطقة، وما تبقى منها فهو على أعماق كبيرة غير اقتصادية، مبدين خشيته على أن يحصل ذلك للأحواض الأخرى.!.

سياسة التجارب..!

ثمة فريق ثالث من الباحثين أجمع على أن السياسة الزراعية تقوم حالياً على التخطيط التأشيري (أي غير الإلزامي) إلا لبعض المحاصيل خاصة الإستراتيجية منها، أما ما تبقى فالدولة تضع تنبؤات لمساحات (الكمون – العدس – الحمص…الخ)، ولا تلزم الفلاحين بها وتقوم بالتدخل غير المباشر، فهي قد تعطي الدعم لمحاصيل دون أخرى ما يحجم الفلاحين إلى عن إنتاج غير المدعوم، وبالتالي فالزراعة تقوم على التجارب وما اعتاد الفلاحون على إنتاجه، واعتبر “هذا الفريق”أن ما يتم إنتاجه لا يقوم على دراسات كافية تحدد الجدوى من زراعتها، علماً أن هناك محاصيل يفترض أن تنجح ويجب استبدالها بمحاصيل اقل جدوى منها، إذ يفترض أن تتحدد كميات إنتاج القطن بما يتوافق مع الطاقات التصنيعية، ولا يسمح بإنتاج أي كمية تفوق ذلك لأنها تؤدي إلى خسارات في حال تصديرها خاماً، فالأصح أن تصدر إما محلوجة أو مغزولة أو منسوجة لتحقيق قيمة مضافة أعلى، لا أن تصدر للخارج كما هي ليستفيد منها أكثر مما نستفيد نحن.

لعل أكثر نقطة اتفق عليها الباحثون هي أن توزيع المحاصيل على مناطق معينة في سورية لم يكن بناءً على دراسات وأبحاث، وإنما على خبرة الأجيال المتعاقبة التي تعلمت من الخطأ والصواب والتجريب، فما نجح معها اعتمدته واستمرت بزراعته، وما فشل معها قلعته واستبدلته بمحاصيل أخرى، فسهل حوران تخصص بالحبوب منذ عصر الرومان وكانت تسمى بـ “إحراءات روما” أي مخازن حبوب روما، والمناطق القريبة من مصادر المياه أنتجت الخضار نظراً لوجود إمكانية إنتاج أكثر من موسم في السنة غير معتمد على المطر، ومؤخراً أصبح هناك نوعاً من الغيرة ولجأ المزارعون إلى استبدال المحاصيل التي نجحت عبر التاريخ في مناطقها بزراعات أخرى كما هو الحال في حوران حيث انتشرت زراعة الزيتون التي نجحت في منطقة الساحل منذ زمن طويل نظراً للظروف المناخية المواتية في الساحل والهطولات المطرية العالية، بينما في حوران إذا لم يكن مروياً لن يعط إنتاجية كبيرة وسيكون خاسراً، وسيكتشف الفلاح ذلك بعد حقبة من الزمن ويقلع أشجاره.

أخيراً

يمكن تلخيص السياسات الزراعية بأنها مجموعة من الإجراءات والقرارات التي تحفز المزارعين على إتباع نهج معين في الزراعة، ولتطبيق هذه القاعدة لابد من القائمين على قطاعنا الزراعي أن يلزموا فلاحينا بالخطة السنوية المعتمدة في جميع مناطقنا حتى نحقق التكامل بالإنتاج وألا يكون هناك فائض بمحصول على حساب محاصيل أخرى تستنزف مواردنا دون تحقيق الجدوى والقيمة المضافة كي نحافظ في نهاية المطاف على تأمين استهلاكنا السنوي ونحافظ على إمكاناتنا ومواردنا الزراعية لأعوام قادمة.