ثقافةصحيفة البعث

“كلمات الجمال”.. استنباط علم الجمال من الأشعار

الحفر الثقافي، المصطلح الذي تبنّاه د. سعد الدين كليب، في كتابه “كلمات الجمال”، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن سلسلة قضايا لغوية، يعني الاستقراء والاستنباط والتحليل والمقارنة في علم جمال الأساطير والأشعار والعادات والأذواق الجمالية، فاستمدّ من أقوال الشعراء من عصور مختلفة غير مرتبة زمنياً كلمات كانت مفتاحاً لنصوص بصيغة المقالة، كما استحضر تفاسير عدة من جيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي”، مبيّناً إمكانية التأثير السحري في الشخص، كل هذه العناصر جاءت اثني عشر نصاً.

لغتنا والمشيمة 

فمن شعر نزار قباني القصيدة الشهيرة التي غنّتها ماجدة الرومي “كلمات” بإحساس أنثوي يعبّر عن الصدمة والخيبة:

يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات

أشار إلى المرشد الخفي الذي هو الكلمات؟ والكلمات تعني لغتنا التي نراها وكأننا لا نراها، لغتنا التي لا تغادرنا ولا نغادرها حتى في أثناء الصمت المطبق، فنراها في مشاعرنا وأذواقنا وأفكارنا وعلاقاتنا بكل من حولنا وما حولنا، ليصل إلى أنها المشيمة التي نتغذى بها، ونعتاش عليها في وعي العالم وفي الاستمتاع به، وفي صياغته وفق تصوراتنا الكلية والجزئية، وفيما نحب ونكره.

ويتابع عن جمالية الكلمات وتأثيرها على الذات، فهي أشبه بالسحر، وأبعد من ذلك كانت علاجاً نفسياً “وكم من كلمة أحيت فينا رميماً كنّا بكيناه حتى انطفأنا”.

مراقصة الكلمات

ويعود إلى بيت الشعر الذي استحضره ليوضح بأن الكلمات لا تتراقص إلا بين يدي الشاعر، وأن للكلمات أفانينها في الرقص البهيج، في تلك اللحظات الانفعالية، وهي تتجول في أنحاء الدهشة والغبطة، ليتساءل “كيف نغيب عن الكلمات؟”.

كما استحضر مفردات الجمال المثيرة للتساؤلات في أقوال عدد من الشعراء منهم، المتنبي، وغرابة ما سمّاه الكاتب بأحمر الشفاه، فوجد في قول المتنبي:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب

مدخلاً للكتابة عن فن التجميل الذي تظن البشرية أنه فن حديث، وأنه خاص بالمرأة دون الرجل الذي يمكن أن يمتهنه ويتخصّص به، فكتب عن الدهشة التي سيشعر بها القارئ بعد معرفته بالأهمية العظمى التي كانت لفن التجميل. والمدهش أكثر أن إقبال الرجال قديماً عليه يضاهي إقبال النساء، بل لعلهم أشد منهن اهتماماً به، فيسترجع صورة من المرحلة البدائية والزينة عند بعض القبائل، إذ كانت المرأة تضع حلقة في خدها الأيمن أو الأيسر، أو في أنفها، أو تضع أقراطاً في أذنيها، وخواتم في أصابعها، وتزين شعرها بالريش وكذلك الرجل، ولم يكن ذلك بغية التجميل فقط وإنما أمر مجتمعي. ويصل الكاتب إلى السحر الذي يكمن وراء التزيين في حماية المرأة والرجل من الأعداء والأشرار والأضرار والأمراض، فكان التجميل وقاية من كل مكروه. وأشار إلى مرور البشرية بردح من الزمن حتى رأت في الزينة زينة فقط لا علاقة لها بالدلالات الدينية والسحرية والعرقية للتجميل.

التأثير السحري بالأسماء

وفي فصل آخر يستنبط الكاتب “أسماء القبح.. أسماء الجمال” من قول المجنون الشهير:

أحب من الأسماء ماشابه اسمها ووافقه أو كان منه مدانيا

فكأن المجنون اختصر الجمالات كلها بليلاه، واختصر باسمها الأسماء والصفات المحبّبة كلها، فالشبيه والموافق والمداني وما بين هذا وذاك وذلك من اختلافات وتوافقات تدخل في باب المحبوب. ووجد أن ليس المجنون وحده من فعل هذا، فتاريخ مديد من الدين والسحر والشعوذة، واللغة والثقافة الإنسانية، جزمت بأن الأسماء وقف إلهي، بينها وبين الأشياء صلة قربى، وإلى اليوم ما تزال الشعوذة تلعب بالعقول والحاجات من خلال اللعب على صلة القربى، أو اللعب على العلاقة المفترضة بين الأجساد والأشياء التي تتصل بها، وهو ما توصل إليه فرايزر في كتابه “الغصن الذهبي” بالتأثير السحري بالأجساد من خلال ما تتصل كالأسماء والأدوات والألبسة والأغطية.

اللغة والتصنيف

ويتساءل الكاتب عن أسماء القبح والجمال وما علاقتها بالسحر ولو مجازاً؟..

فالتعدّد الكبير لأسماء الجمال في العربية، ولا يقصد أساليب البلاغة ولا الصفات والمشتقات، وإنما المصادر تحديداً فيصعب أيضاً تعدادها وحصرها مثل الحسن والنبل والملاحة والحلاوة والوسامة والصباحة والوضاءة والرهافة واللطافة فتتوزع على حقول عدة، منها حقل الشكل والسلوك والذوق وهي حقول علم الجمال، ومنها ما يوصف به الإنسان والحيوان مثل الرشاقة والنعومة والرقة، ومنها ما يوصف به الإنسان والنبات كالنضارة، ومنها ما يستمد من الصنائع والأعمال كالإبداع، ليختصر كل ذلك الكاتب بأن اللغة في توصيفها تقوم بفعل التصنيف الجمالي.

ولا تختلف أسماء القبح من حيث التوزيع والتعدّد عن أسماء الجمال، إذ تتوزع على الحقول الحسية والسلوكية والذوقية، وتختلف عنها بأنها تركز على ما هو بشري فقط، فلا توجد إحالات دلالية واضحة أو صريحة على الطبيعة مثل أسماء الجمال، ويرى الكاتب أن هذا إشارة لغوية إلى أن القبح نتاج بشري ولا علاقة له بالطبيعة، إنه من صناعة البشر وحدهم، سواء أكان ذلك في الأشكال والأذواق أم في الأفعال والأعمال. ومن أسماء القبح: القباحة والشناعة والقماءة والنتانة والسماجة والفظاظة والتوحش والسقم وغيرها. ليجيب الكاتب بسؤال “أليس السحر نفسه مجرد كلمات؟”.

أورفيوس 

كما استمد أفكار الجمال من الحطيئة بعنوان فانتازيا الحطيئة، ومن بشار بن برد سلطة الشكل، ومن بدوي الجبل مجازات الجمال والجلال، ليختم الكتاب بقول الأصفهاني في ابن سريج المغني بعنوان كلمات نافلة، فتطرق إلى الشاعر الموسيقي أورفيوس الذي يغني ويعزف على قيثارته فتطرب له الأشجار والطيور والأحجار والأيائل، أما الوحوش المفترسة فلم تكن أقل غبطة وأنساً من الحجر والشجر!.

ملده شويكاني