تحقيقاتصحيفة البعث

في عيد المعلم.. صعوبات تعيق رسالته وهيبة أفقدها الانترنت رونقها!

حتى “المعلم” لم يسلم من مفاعيل الحرب ومخرجاتها، لكن بطريقة مختلفة بعض الشيء، فعدا عن الوضع المادي الذي يعاني منه معظم المعلمين كغيرهم من سائر الناس، يبدو أن “رسول” العلم والتعليم فقد هيبته وتبدّدت ملامحه المعطاءة أمام جيل الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وباتت رسالته المقدّسة لا تدعو للتبجيل، ما جعل البعض منهم ينساقون وراء العالم المادي حفظاً وصوناً للكرامة والحياة.

هيبة مفقودة

إذا ما قارنا وضع المعلمين قبل خمسة عشر عاماً وربما أكثر، مع جيل المدرّسين الجدد، نجد فرقاً شاسعاً بينهم، فبعد أن كان الاحترام والهيبة سيدي الموقف وكاتمي أنفاس المارة  -في حال مرور أحدهم – غاب هذا المشهد ولا يزال، عن حياتنا الاجتماعية، بل لن نبالغ إذا قلنا إن الأستاذ هو من يتفادى المرور بطريق طلابه تجنباً لما قد يؤول لسان بعض الشبان “الحدّث” حتى ولو من باب المزاح. فالمعلمة مروة واحدة من الخريجات الجدد التي تعيّنت في السلك التعليمي، تحاول دوماً “الفرار” من أي مصادفة تجمعها بطلابها من المرحلة الإعدادية، وتجربتها في التدريس خلال الست سنوات الماضية لم تجلب لها كما تقول سوى “وجع الراس”. وتتذكر مروة متأسفة على هذا الجيل كيف كانت تهاب مدرسيها فقط من ذكر أسمائهم. أما الأستاذ روني ، مدرس رياضيات، ومستأجر في إحدى القرى بحماة كونه من محافظة أخرى، فيشعر على ما يبدو ببعض القوة عند التعامل مع طلابه، لكن في الوقت نفسه يفقد تلك الشجاعة بمجرد الخروج من باب المدرسة، ليتجاوز طلابه العلاقة بينهم، معتبرين أنفسهم أصدقاء وشباب والمزاح مباح بين الطرفين!.

علم مأجور

ربما يكون التعامل مع التلاميذ أكثر وديّة من المراحل الإعدادية والثانوية، ويترك المعلم والمعلمة بصمة لا تنمحي بسهولة من ذاكرتهم، كما يحصل معنا نحن من تجاوز عمرنا الثلاثين والأربعين، لكن من المؤكد أن تلك المرحلة تحتاج لجهد كبير حتى يحقق المعلم ما يريده، وأيضاً يبقى لجمالها طعم آخر خاصة لمن لا يزال يؤمن بمهنة التعليم وقدرتها على تربية الأجيال، وهذا ما نفتقده للأسف في أيامنا.

لن نلقي اللوم برمته على المدرّسين، فالحياة صعبة وتأمين كفاف العيش لم يعد هيناً، لكن هل من المعقول ألا يكون هناك نوع من التوازن ما بين المال والأخلاق؟، نحن لا نتهم أحداً، لكن ما نراه يومياً ونسمعه يؤكد ابتعاد بعض المعلمين والمدرّسين عن كل ما له علاقة بالكتاب، وعندما تكون تكلفة تدريس مادة اللغة “درس خصوصي” 500 ألف لطالب واحد خلال العام، نعلم أننا بتنا نشتري العلم “بالمصاري”. يقول الطالب “سمو” في المرحلة الثانوية: طلب مني مدرّس الرياضيات 500 ألف ليرة ليختم لي كتاب الرياضيات رغم أنه مدرّسي في المدرسة، مضيفاً: بصراحة لا أعرف ماذا أقول لمعلمي هذا في عيده!، وكذلك هو حال الطالبة إيناس التي تدفع بحدود الـ4000 ليرة على الحصة الدرسية لمدة ساعة، علماً أن بعض المدرّسين تصل أسعار الحصة عندهم إلى /10000/ ليرة، وهنا نسأل: أين وزارة التربية؟، علماً أنها أصدرت تعليماتها الواضحة بألا يكون الدرس الخصوصي في وقت الدوام الرسمي نفسه، وأي مدرّس يثبت عليه إساءته للتعليم في هذا المنحى تتخذ بحقه الإجراءات القانونية.

تأثيرات

للتربية المنزلية دور كبير في التعامل مع الآخرين، فكيف إذا كان الطرف الآخر هو “من علمني حرفاً”؟، قد لا يستطيع الأهالي السيطرة على أبنائهم نتيجة العالم الافتراضي المفتوح الذي خلق فجوة  بين أفراد الأسرة الواحدة، وحلّ محلّ مجمل العلاقات التي كنا نتغنّى بها، ومن بينها علاقة المعلم بطالبه.

تقول المرشدة الاجتماعية هيام عبده: إن الحياة بمجملها تغيّرت، ولا يمكن مقارنة جيل الثمانينات وما قبله بهذا الجيل ومن كل النواحي، وفيما يخصّ الحديث عن المعلم يمكن القول إن مساره تغيّر من تلك المرحلة إلى اليوم أيضاً لأسباب كثيرة، منها حصول الطالب على أي معلومة من الانترنت دون مدرسة، لينتقل دور الأستاذ من المعلم إلى الملقن، وقلّة قليلة منهم من يستطيعون السيطرة على الصف وضبط سلوك الطلاب حتى في المرحلة الابتدائية، فالبراءة والطفولة ما عادت كما كانت إلا ببعض القرى البعيدة والمقطوعة عن العالم الافتراضي.

وألقت المرشدة الاجتماعية باللوم على بعض المدرّسين بهذه النقطة، واتهمت البعض منهم بقلة الثقة بالنفس، فكما أن للطالب والتلميذ الحق المشروع بعدم ضربه، للمعلم أيضاً الحق بعدم الإهانة والتقليل من شأنه. وتساءلت عبده: كيف يمكن للأستاذ أن يصل لمرحلة الإهانة وأحياناً الضرب من قبل طلابه؟!!، وهي أمور نسمع بها بشكل فردي وقليلة، لكن حصولها مؤشر واضح على وجود خلل تربوي أو أخلاقي، وفي كلتا الحالتين هي مشكلة كبيرة، إلى جانب ذلك أشارت المرشدة إلى نقطة مهمة وهي تعيين المعلمين بغير مناطقهم واضطرارهم لدفع إيجار سكن ومواصلات وغيرها، وهي أمور ترهق الذهن وتشتّت المدرّس، إضافة لمشكلات تتعلق بقوانين وزارة التربية، منها تحديد المكان، ففي الوقت الذي تحتاج فيه –على سبيل المثال لا الحصر- بعض قرى حماة لمعلمين (عربي وإنكليزي) يتمّ تعيين أبنائها خارج المحافظة لأسباب غير مفهومة حتى الآن!!.

تقديم تسهيلات

ينادي المعلمون بتحسين دخلهم بما يرتقي ويتناسب وحجم عملهم، فقد يضطر بعضهم ممن ضميرهم حيّ للوقوف ست وسبع ساعات لإعطاء الطالب حقه، وهي مهنة متعبة تمتد لثلاثين عاماً يخرج منها المعلم إما بديسك أو دوالٍ أو مرض في أعصاب الأقدام واليدين، والأمثلة كثيرة على هذه الحالات المرضية، ويطالب العديد من المدرّسين بتعيينهم في محافظتهم التي تعاني من قلّة اختصاصات، بدل ذهابهم لمناطق بعيدة تكبدهم أعباء مادية كبيرة، وإن كان المطلب المادي ربما من الصعب تحقيقه في الوقت الحالي رغم زيادة طبيعة العمل للمدرّسين والمعلمين، لكن من الضروري تقديم تسهيلات أكثر لهم، وخاصة لجهة تحديد مكان عملهم وتعيينهم بمناطقهم، وهو مطلب حق وضروري جداً في ظل هذه الظروف الصعبة، ويأمل المعلمون في يوم عيدهم أن يلقى هذا المطلب الصدى المناسب عند وزارة التربية صاحبة القرار، إضافة لضرورة إعادة الهيبة للمعلم، لأن تربية جيل واعٍ ومسؤول أولاً وأخيراً بين يديه، شئنا أم أبينا، لذا لابدّ من البحث عن السبل التي تجعله “يُعطي من قلبه” كما يقال بدل أن يكون التعليم عبئاً عليه يثقل كاهله. ورغم كل شيء، ورغم  كل الصعوبات نقول للمعلمين: كل عام وأنتم بخير، ودامت رسالتكم المقدسة خالدة.

نجوى عيدة