رأيصحيفة البعث

مخاض نظام عالمي جديد

سنان حسن

لم يعد من المنطق القبول بأن العالم قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لحماية دونباس، هو نفسه بعدها، فالاصطفاف والهيستيريا الغربية غير المسبوقة لمنع روسيا من تحقيق أهدافها هو العنوان الأبرز لكل التحركات الدبلوماسية الغربية، وما قاله رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون “من الضروري أن يفشل بوتين لأنه لو ربح فلن يتوقف عند حدود أوكرانيا” يعبر صراحة عن هاجس الغرب وزعمائه من ذلك. وعليه لم يتركوا وسيلة إلا وقاموا بها لمنع ذلك، من خلال ممارسة إرهاب ممنهج ضد الدول الرافضة لمواقفهم  لدفعها إلى تغييرها حتى لو كانت على الحياد، كما يحدث اليوم مع الصين، فلا يكاد يمر يوم إلا ويطلق مسؤول أمريكي تصريحاً ينتقد ويتوعد موقف بكين من الحرب ويدعوها إلى إيقاف نشاطاتها المالية والاقتصادية معها، حتى إن الرئيس الأمريكي جو بايدن  الذي اتصل مرة واحدة خلال وجوده في البيت الأبيض بنظيره الصيني شي جيبينغ، استعجل الاتصال للمرة الثانية لـ “يحذره” من “مغبة مساعدة موسكو”، كما ذكر البيان الرئاسي الأمريكي، فهل كل هذا العويل الغربي بالفعل لحماية أوكرانيا وشعبها، أم أن أمريكا بدأت تتلمس أن العالم بدأ يتغيّر وأن صراعها القائم اليوم هو للحفاظ على قيادتها المطلقة للعالم في ظل ظهور لاعبين جدد يريدون أخد دورهم فيه؟ والأهم لماذا التركيز على الصين؟.

قبل أربعة عقود وفي لحظة خلاف بين الصين والاتحاد السوفييتي على مسألة حدودية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الأزمة واستثمرت فيها بحيث استطاعت بعد زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للصين عام 1971 توقيع اتفاقية تعاون معها وتحييدها عن الصراع بينها وبين الاتحاد السوفييتي فيما يسمّى “الحرب الباردة”. ومضت الأيام وانهار المعسكر الاشتراكي وتسيّدت واشنطن العالم، ولكن بقيت بكين تراكم أسباب قوتها حتى باتت قوة صاعدة لا يمكن لأي قوة عالمية تجاهلها، ما دفع إدارة الرئيس باراك أوباما في عام 2010 إلى وضع إستراتيجية للتحول شرقاً ومحاصرة بكين، وزادت حدة المواجهة في عهد الرئيس دونالد ترامب الذي فرض رسوماً وعقوبات كبيرة على الشركات التكنولوجية الصينية محاولاً تقييد تجارتها مع العالم، مروراً باتهامها بمنشأ فيروس كورونا، ودعمها العلني لاستقلال تايوان عبر تزويدها بالعتاد العسكري المتطور واتهامها أيضاً بمجازر وإبادة عرقية في إقليم شيانجينغ وصولاً إلى العملية الروسية الخاصة في دونباس، حيث عدّت واشنطن موقف بكين داعماً لموسكو ومؤيداً لها رغم عدم إعلانها ذلك صراحة، ومردّ خوف واشنطن هو التحركات الصينية الروسية المشتركة التي تم التعبير عنها قبيل بدء العملية العسكرية في دونباس خلال لقاء الرئيسين الصيني والروسي وبيانهما المشترك الذي يؤسس لبناء عالم جديد بعيداً عن سياسات الحرب الباردة التي تنتهجها واشنطن وحلفاؤها لإحكام السيطرة على العالم.

في المقابل كانت الصين واضحة في إعلان موقفها من العملية الروسية فأكدت في بيانها الأول أن وصف “العملية بالغزو مبالغ فيه”، بل أكثر من ذلك اتهمت واشنطن بأنها “تواصل تصبّ الزيت على النار بمواصلتها بيع أسلحة لأوكرانيا”، كما رفضت بكين كل الهستيريا الغربية نحوها مطالبة بأن تكون أكثر توازناً وأن تبحث عن حل أسباب النزاع بدلاً من تأجيجه وتسعيره بفرض العقوبات وعسكرة العالم بأساليب الحرب الباردة، وفي السياق، طرح وزير الخارجية الصيني مبادرة من ست نقاط للبدء بحل الأزمة ولكن الغرب رفض وأصرّ على موقفه الرامي إلى عزل روسيا وتحييدها عن المسرح العالمي، وهذا ما أكده وزير الخارجية الروسي اليوم سيرغي لافروف بقوله “أنّ الحديث يدور اليوم عن روسيا، والصين سيأتي دورها لاحقاً، مضيفاً: “هناك محاولات لعزل روسيا وتصرفات الولايات المتحدة التي تهين الصين ودولاً أخرى تشبه الكاوبوي”..

أمام هذا التفرّد الغربي بالعالم ورفضه أيّ فكرة لظهور قوى جديدة تشاركه في قيادته، يبدو واضحاً أن الصين وروسيا ومعهما عدد من الدول الإقليمية تسير في طريق واضح نحو بناء عالم جديد متعدد الأقطاب يعاد فيه تشكيل العالم على أسس جديدة يكون منطلقها التنمية البشرية وسيادة القانون الدولي بعيداً عن التفرد الحاصل اليوم، والعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا لحماية دونباس هي المنطلق لبدء هذا الطريق، فالغرب هو من اختار هذا الطريق وعليه أن يتحمل النتائج وكما يقول المثل الصيني “من ربط الجرس في رقبة النمر يجب أن يخلعه” .. لننتظر ونر.