الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

محمود درويش..!

حسن حميد

الآن، أيها الشاعر الخرافي، أستعيد الأحاديث المحوّمة مثل الطيور حول أمسيتك القادمة، والتغييرات الكثيرة التي تأخذ محبيك من مكان إلى مكان مخافة ألا تتسع الأمكنة لهم، وقد جاؤوا من المخيمات والأرياف والمدن القريبة والبعيدة ليستمعوا إليك، وليروك.

لقد عشتُ عمري الذي مضى، ولم أعرف شغفاً يلفّ أمسيةً، مثل الشغف الذي يلفُّ أمسيتك، وقبل أن تبدأ! إذ لا شيء يحمله الهواء سوى خبر: أمسية محمود درويش! أمّا الأسئلة فتظلّ لوّابةً، والأخبار حائرةً، وأمكنة الأمسية تتغيّر إلى أن يستقرّ الرأي، إذ ليس من مكان يتسع لجمهور الشعر النّدي الذي سيلقيه محمود درويش، سوى الملعب! يا إلهي.. الملعب؟ وهل تحوّل الشعر، مع محمود درويش، إلى مسرح في الهواء الطلق، أو إلى عرض أفلام في البراري أو البيادر في الأرياف.

بلى، كنّا نمشي إلى الملعب كما لو أننا نمشي على طمأنينتنا، فلا قلق الآن ولا خوف من الازدحام، لذلك تقودنا الدروب الطويلة ونحن نردّد أشعاره التي حفظناها عن ظهر قلب، ونتساءل، بحيرة تشبه حيرة العصافير، ماذا سيقرأ، ولماذا نذهب إلى أمسية محمود درويش ونحن نحفظ قصائده، ونطويها واحدةً فوق واحدة كما لو أنها السجاجيد، وبالحرص الرهيف، والشوق الأهيف، والكبرياء الآبدة، ولماذا لا نذهب إليه، إلى شعره، فرادى؟! ولماذا تتقيّف الأُسر وتتزيّن بالرموز الفلسطينية فيبدونها: ثياباً مطرزة، وكوفيات، وسلاسل تحمل خريطة فلسطين وكتباً، ومجلات، وشرائط ملونة بألوان علم فلسطين، لماذا؟ أهم في عيد! بلى، كانت أمسيتك، يا محمود درويش، عيداً لنا، وللأمكنة، عيداً للطيور التي تحلّق فوقنا، وعيداً للأطفال الذين لا يدركون معاني الشعر بعد، ولكن تمتماتهم تشبه تمتمات السّحرة التي تواجه حيرة المتفرجين، وهذه عرائش الياسمين الدمشقية التي تماشينا وتبارينا هي أشبه بالأكف والمناديل المرحبة بالشاعر الذي سيمرّ بها لابدّ! وهذه المحال التي نخلّفها وراءنا، تبدو وحيدة، وأصحابها يتحدثون عن ثلاثة: فلسطين، ومحمود درويش، والشعر!.

وفي الملعب! يا للملعب الذي تحوّل إلى معبد يلفّه الصمت العميم، حيث يغرق الصمت في الصمت، وتتوجه الأنظار إلى البوابة الكبيرة التي يخرج منها اللاعبون عادةً، ترقباً لخروج الشاعر، فتكاد البوابة تميد أو تميل أو تنهار من حمولة الأبصار، ويخرج محمود درويش، ويا لخروج الشعراء، إنه خروج الغابات وقد تزيّنت بطيورها وألوانها وأشجارها العوابي، ويدوي التصفيق رجيجاً هائلاً، ولأن للشعر مهابته، يقف الحاضرون، فينادون، ويرحّبون، ويهتفون، ويزغردون، وتدنو الأيدي من الشاعر أكثر فأكثر وهي تلوّح، لكأنها تهمّ، لولا الحياء، بالكلام! ويبدأ الشعر صعوداً وتعريشاً مثل الدوالي، ويبدأ السّحر، فينسى الشاعر وقوفه الطويل المديد، ويبدأ الخدر يسري في الأجساد، فلا صوت ولا حركة ولا أنفاس ولا مرجحة للأيدي ولا شعر تتطاير غرتُة في الهواء سوى صوت محمود درويش، وحركة يديه، وأصابعه التي راحت تخلخل الأوراق والهواء وغرته الشاردة!.

يا إلهي من قال لهم إنهم في معبد، ومن حدّثهم عن قدسية الشعر الذي يطوّف في ضفاف نهر الأردن، وطبريا، وقرب حقول السمسم وعباد الشمس والقمح، وبمحاذاة شواطئ عكا وحيفا وعسقلان، الشعر الذي يصعد بالرزانة الوازنة أدراج بيت لحم والقدس والناصرة..

والشعر الذي نؤوب به إلى بيوتنا التي تبيت وحيدة قرب الأرصفة، كيما نبيت أيضاً فرحين بما عدنا به من أمل وبهجة وجمال وغنى، ولا شيء تردّده لهواتنا، وبصمت وقور، سوى: بلادي.. بلادي!.

Hasanhamid55@yahoo.com