مجلة البعث الأسبوعية

إعادة ضبط الطاقة تتجاوز الأسواق الى القوانين والخطط الصناعية

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

تسبب تصعيد الأزمة الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى إحداث اضطرابات في سوق الطاقة العالمي، في تغيرات عميقة فيها أيضاً، فوفقاً لمحللي الاقتصاد يمر سوق الطاقة العالمي بإعادة ضبط كبيرة نتيجة لمثل هذه التطورات في قطاع الطاقة في بعض الدول.

تشير كلمة إعادة ضبط هنا إلى أنه سيكون هناك تعديلات كبيرة في مجالات مختلفة بما في ذلك إنتاج الطاقة العالمية، والتجارة والنقل والاستهلاك، والاستثمار، والأسواق المالية، كنتيجة مباشرة للأزمة الجيوسياسية الروسية الأوكرانية. وهذا الوضع لن يغير نمط التطوير السابق لمجال الطاقة العالمي فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى إعادة بناء صناعة الطاقة العالمية وسوق الطاقة.

تاريخياً، من الشائع جداً أن تتأثر أسواق الطاقة بالأحداث الجيوسياسية، حيث  كان لأزمتي الطاقة في السبعينيات، هجوم الناتو على يوغوسلافيا في عام 199، والهجوم الإرهابي في الحادي عشر من أيلول 2001، وظهور الصراع الروسي الأوكراني في شباط عام 2022، بدرجات متفاوتة، تأثير ضار في سوق الطاقة العالمي.

ومع ذلك، لا تؤدي كل صدمة إلى تحول كبير في أسواق الطاقة العالمية، لكن ما يجعل الأزمة الأخيرة جديرة بالملاحظة هذه المرة هو أن روسيا هي واحدة من أكبر منتجي ومصدري الطاقة في العالم، ونتيجة للأزمة، التي أثارت صراعات بين روسيا والغرب، أدت المخاطر الجيوسياسية الهائلة  إلى تحول عالمي في أعمال الطاقة.

تعد روسيا حالياً أحد موردي الطاقة الرئيسين في العالم ، إذ يحتل إنتاج البلاد من النفط والغاز الطبيعي المرتبة الثانية في العالم. كما تعد روسيا أيضاً ثاني أكبر مصدر للنفط وأكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، حيث تمثل صادراتها من النفط والغاز الطبيعي حوالي 25% من تجارة الصادرات العالمية. وتأتي صادرات النفط الروسية في المرتبة الثانية بعد السعودية، حيث تصدر حوالي أربعة ملايين إلى خمسة ملايين برميل من النفط الخام يومياً، ومليونين إلى ثلاثة ملايين برميل من المنتجات المكررة يومياً.

في عام 2021، بلغ إنتاج روسيا من النفط الخام حوالي 520 مليون طن ، لتحتل المرتبة الثالثة على مستولى العالم بعد الولايات المتحدة والسعودية. كما بلغ إنتاجها من الغاز الطبيعي 761 مليار متر مكعب، لتحتل المرتبة الثانية في العالم، والتي تمثل حوالي 18% من إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي في العالم. في عام 2021، صدرت روسيا حوالي 230 مليون طن من النفط، في المرتبة الثانية بعد السعودية. وبلغ تصدير الغاز الطبيعي حوالي 200 مليار متر مكعب، لتحتل المرتبة الأولى في العالم. وكانت أوروبا الوجهة الرئيسية لصادرات الطاقة الروسية، حيث تمثل صادرات النفط والغاز الطبيعي الروسية إلى أوروبا 50% و 78% من إجمالي صادرات البلاد، على التوالي.

لقد أثرت الأزمة الروسية الأوكرانية بشدة على العلاقة بين روسيا وأوروبا، حيث أدت العقوبات متعددة الأوجه التي فرضها الغرب على روسيا، إلى جانب العقوبات المضادة التي تفرضها روسيا، إلى تراجع طويل الأمد بين روسيا والغرب.

وفي حال أضافت أوروبا العقوبات النفطية، فإنها ستكون حاسمة بالنسبة للاقتصاد الروسي، ولا بد أن يتسبب هذا في تحول كبير في سوق الطاقة العالمية . وباستخدام الغاز الطبيعي الأوروبي كمثال، تظهر بيانات شركة “بريتيش بتروليوم” أنه في عام 2020، بلغ استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا 541.1 مليار متر مكعب (بمعدل 547,8 مليار متر مكعب خلال السنوات الخمس السابقة)، وبلغت الواردات من روسيا 184.9 مليار متر مكعب (أي ما يعادل 34.2% من الاستهلاك الأوروبي)، بـ 167.7 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي لخط الأنابيب، وفي حال قطعت روسيا إمدادات الغاز الطبيعي بشكل تام عن أوروبا فستحتاج إلى تحديد 184.9 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي البديل.

كانت أوروبا ودول أخرى حذرة بشأن صادرات الطاقة الروسية، لأنها تدرك جيداً أن أي تغييرات سيكون لها تأثير على الطلب والعرض للطاقة العالمية. ففي 3 آذار الجاري، قالت وكالة الطاقة الدولية في حال استخدام روسيا لموارد الغاز الطبيعي كسلاح اقتصادي وسياسي في مواجهة العقوبات سيتوجب على أوروبا التحول إلى موردي الغاز الآخرين ومصادر الطاقة البديلة.

تعتبر الولايات المتحدة المورد الأول في العالم للغاز الطبيعي المسال، وتتنافس أوروبا مع الدول الآسيوية للحصول على  عقود الغاز الطبيعي المسال من قطر وأستراليا، وبذلك يتعين على أوروبا أن تدفع تكلفة أعلى من تكلفة غاز خطوط الأنابيب لزيادة واردات الغاز الطبيعي المسال، كما تواجه البلدان التي لديها محطات استقبال غير كافية، مثل ألمانيا، صعوبات في إمدادات الغاز وسعة التخزين.

على الرغم من أنه لم يتم حتى الآن سن حظر عالمي على صادرات الخام الروسية، بدأت مصافي التكرير من الصناعات الأوروبية والأمريكية في تجنب النفط الروسي، ورفضت البنوك تمويل شحن السلع الروسية، مما أدى إلى سلسلة من ردود الفعل في نظام تداول النفط الخام العالمي، ففي الأول من آذار الحالي، كان سعر نفط الأورال الروسي أقل من 18 دولاراً مقابل خام برنت. وقدر السوق أنه اعتباراً من 2 آذار ، وصلت صادرات النفط الخام الروسي المتأثرة إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً.

ووفقاً لوكالة رويترز، يتجنب المشترون الدوليون النفط الخام المنقول عبر خط أنابيب بحر قزوين، لأن النفط الخام المنقول عبر خط الأنابيب قد يكون مختلطاً مع النفط الخام الروسي، ومحطة خط أنابيب بحر قزوين هي ميناء روسي على البحر الأسود. ينقل خط أنابيب بحر قزوين أكثر من مليون برميل من النفط الخام يومياً من كازاخستان، أي ما يعادل أكثر من واحد بالمائة من إمدادات العالم.

إن إعادة ضبط الطاقة ستؤثر أيضاً على سياسات الطاقة التقليدية والطاقة النووية  في بعض البلدان، فمع تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية، ارتفعت أسعار النفط والغاز والفحم على مستوى العالم، وتحظى الطاقة النووية باهتمام بعض الدول. ففي 11 شباط من هذا العام، أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن إحياء واسع النطاق لبرنامج الطاقة النووية، حيث ستبني فرنسا ما لا يقل عن ستة مفاعلات نووية جديدة، وتدرس إمكانية بناء ثمانية مفاعلات أخرى. قالت وزارة الطاقة الكازاخستانية في 16 شباط الماضي إن بناء محطات الطاقة النووية في كازاخستان من المحتمل أن يكون الحل الواعد في حالة النقص المتوقع في الطاقة . كما عقدت الفلبين العزم على تبني الطاقة النووية، فقد  أمر الرئيس الفلبيني دوتيرتي من خلال قرار تنفيذي حديث بتضمين الطاقة النووية في مزيج الطاقة في البلاد حيث تستعد السلطات المحلية للتخلص التدريجي من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بعد أن باءت الجهود السابقة بالفشل بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.

في 3 آذار الجاري تقدمت شركة  “فورتام “الفنلندية للطاقة بطلب إلى الحكومة لإطالة عمر محطة “لوفيسا” للطاقة النووية التي كانت قيد الاستخدام لأكثر من أربعين عاماً، إلى عام 2050. في السابق، كان من المفترض أن يتم إغلاق المحطة في 2030. كمكا أنه في 2 آذار الحالي، كشف وزير الاقتصاد الألماني روبيرت هابيك أن ألمانيا تدرس ما إذا كانت ستطيل عمر محطات الطاقة النووية المتبقية لحماية امدادات الطاقة في البلاد وسط حالة من عدم اليقين بشأن إمدادات الغز الروسي. كان لدى ألمانيا خططاً لإغلاق محطات الطاقة النووية الخاصة بها بحلول نهاية عام 2022 ، كما تخطط الهند وجنوب إفريقيا ودول أخرى لتوسيع الطاقة النووية بشكل كبير.

يصبح الفحم أيضاً جزءاً من هذا التحول، حيث خففت ألمانيا من سياستها المتعلقة بالفحم تحت الضغط، فقد أوصى المعهد الألماني للأبحاث الاقتصادية مؤخراً في تقرير بضرورة إعادة محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم التي تم تجميدها لأسباب تتعلق بحماية المناخ إلى الخدمة. ووفقاً لخطة ألمانيا، سيتم إغلاق جميع محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بحلول عام 2038، وسيتم التخلي عن استخدام الغاز الطبيعي بحلول عام 2050، لكن في ظل أزمات الطاقة التي جلبتها التحديات الجيوسياسية، ستتأثر هذه الخطط الخضراء والصديقة للبيئة بشكل كبير، وقد تقوم دول أوروبية أخرى أيضاً بإعادة استخدام الفحم أو زيادة استخدامه.

هذه التغييرات التي أحدثتها أزمة الطاقة، والتي تفاقمت بسبب الأزمة الجيوسياسية، تدفع العديد من الدول إلى إعادة النظر في استخدام الطاقة النووية وطاقة الفحم، إلى جانب الطاقة الخضراء وتطبيقات توفير الطاقة . لقد حدثت عملية تحول ضخمة للطاقة في جميع أنحاء الكوكب، و بسبب إعادة ضبط الطاقة، قد لا تحدث التغييرات فقط في سوق الطاقة، ولكن أيضاً في القوانين والخطط الصناعية واستثمارات الصناديق وسياسات الطاقة الحكومية والتأمين المالي.

لا يؤدي تصعيد الأزمة الروسية الأوكرانية إلى ممارسة ضغوط على الجغرافيا السياسية العالمية فحسب، بل يؤثر أيضاً بشكل كبير على صناعة الطاقة العالمية ونظام سوق الطاقة.

وهذا يؤدي إلى إعادة ضبط كبيرة في مجالات إنتاج الطاقة العالمية، والتجارة  والاستثمار، والتمويل والقانون والاستهلاك. و باعتبارها واحدة من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم ومستورديها، فمن المحتمل أن تتأثر الصين بشكل كبير بهذا، وبالنظر إلى التقييم الشامل لتأثيرات إعادة ضبط الطاقة العالمية وصياغة وتعديل استراتيجيات أمن الطاقة في الوقت المناسب في العالم،  يجب على الصين أن تتحرك.