ثقافةصحيفة البعث

صموئيل إل جاكسون في دور العمر

يُعرض مسلسل “آخر أيام تولامي غراي” الجديد حالياً على منصة “آبل بلس”، وبُني على رواية بوليسية كتبها الروائي الأمريكي والتر موسلي وتحمل العنوان نفسه، وبمرور الأحداث يكشف لنا الكاتب أن العقل البشري أعظم الألغاز عبر تناول مسألة الخرف.

بطلنا تولامي غراي (صموئيل إل جاكسون) عجوز ودود يعاني من الخرف، وهو عاجز عن إدارة شؤونه من دون مساعدة ابن أخيه ريجّي (عمر بنسون ميلر) الذي يصحبه إلى البنك والطبيب ولتناول الغداء، لكن تولامي في غالب الأحيان يكون وحيداً طوال اليوم، جالساً على كرسي حديقة صدئ في شقة مكتظة بممتلكات شخصية عشوائية وأثاث يعلوه الغبار، ومواسير المياه فيها لا تعمل، وأسطح المناضد مغطاة بالقمامة، والخِزانات تعجّ بالصراصير.

وتساعده خريطة صور معلقة على الحائط في تذكّر أي فرد من أفراد عائلته عندما يأتون للاطمئنان عليه، وهو أمر مهمّ لأنه يتوتر عند دخول غريب إلى منزله. وهناك غشاوة تهيمن على حياته اليومية المليئة ببواعث القلق والإرباك، فالطرق على الباب يخيفه لأنه تعرّض سابقاً للسرقة والتهديد على يد امرأة في الحيّ، مع أنه لا يدرك سبب خوفه. وتطارده طوال اليوم ذكريات غامضة من حياته تأتيه بصورة عشوائية غير مترابطة. ويرى كل حين أشباحاً من الماضي تحذّره من أمور يشق على عقله استيعابها.

يتعامل المسلسل مع مسألة الخرف بحساسية وحذر، فهي حالة منهكة ومأساوية تودي بالمريض إلى فقدان ذاته، ونرى هذا في اللحظات الأولى للمسلسل، إذ يعرض لنا ببراعة ألم المرء حين يشعر بذاته تتآكل وتتلاشى تدريجياً. لكن المثير للاهتمام أنه يصوّر الخرف من حيث الغياب مثلما يصوره من حيث الحضور، بمعنى شتات الذات المتبقي، فقد أمسى عقل تولامي عبارة عن سلسلة عشوائية من القرائن والدلائل. وبينما تتدهور حاله، نراه يتمسّك بشدة بالأمور الأهم في نظره، من بينها مفتاح الكنز المخبأ الذي كان يحرسه منذ أن كان طفلاً.

من الصعب توضيح الخرف على الشاشة، ربما لأنه تجربة ذاتية لا يعيها من يختبرها أو ينسى الخبرة التي اكتسبها منها. ونرى أفلاماً كثيرة تعرض الإحباط والصراع الذي يعاني منه من يدرك أنه بدأ يعاني من الذبول، لكن المسلسل يركز على العادات والأنماط المتكررة والتجارب اليومية بدلاً من الأزمات الوجودية الدرامية التي يشكلها المرض، وهو يغوص في تفاصيل ما يعنيه التعايش مع الخرف فعلاً، ما يحول دون تعكير الحزن الغامر الناجم عن الحالة لفهمنا للشخصية والتعرف عليها، ومع أن عائلة تولامي محبطة من هفواته وتشوّشه، ويرون أنه ليس الشخص الذي كان عليه من قبل، تكمن مهمة الجمهور في التعرف عليه في وضعه الحالي.

ويأخذ المسلسل منحى جديداً عندما تنقطع زيارات ريجي فجأة، فقرّر تولامي التحقق مما حدث، مع أنه لا يملك إلا شظايا من تفاعلاته مع ابن أخيه الذي كان في خطر. ويحظى بفرصة لمحاولة حلّ هذه الألغاز عندما تصبح صديقة العائلة روبين (دومينيك فيشباك) مسؤولة عن رعايته، وهي يتيمة رعتها شقيقة تولامي لفترة، ثم قررت بلا مبرر أنها لم تعد قادرة على إيوائها في منزلها. لكن روبين تعجب بالعجوز وتقرر العيش معه، وتعمل على إزالة شباك العنكبوت والخردة في شقته، قبل أن ينتهي بها الأمر بفعل الشيء نفسه بعقله.

وتأخذه روبين إلى الطبيب في موعد حدّده ريجي سابقاً، حيث أجرى الطبيب (والتون غوجينز) دراسة ثورية تقلل مؤقتاً من أعراض الزهايمر، وهذا تطوّر في قصة تدور حول العلاقة بين المرء ونفسه الماضية.

وما يتكشّف لنا هو قصة بوليسية معقدة وكئيبة تأخذ تولامي في رحلة عبر حاضره وماضيه على حدّ سواء، وتزيل الستار عن نسيج غنيّ لحوالي قرن من ذكريات حياة السود في جنوب الولايات المتحدة، فقد نشأ بطلنا منذ طفولته في مجتمع فقير، وبدأ في سن الرشد ببناء حياة وأسرة في أتلانتا في القرن العشرين.

لا شك أن صموئيل جاكسون أحد أكثر الممثلين السينمائيين موهبة وسحراً، ومن الواضح أن هذا المسلسل الذي أنتجه مع زوجته لاتانيا ريتشاردسون جاكسون هو مشروع العمر، وتألق في أداء الشخصية بدرجة لا تصدّق، حتى أنه نجح أكثر في بناء شخصية متماسكة في جميع الأعمار والحالات. وعلينا ألا ننسى تألق دومينيك فيشباك أيضاً بدور روبين، التي كان غضبها قشرة تختزن داخلها قوة حب ورعاية كبيرة.

أما عن المسلسل فقد نجح في بناء الصداقة بين هاتين الشخصيتين المحوريتين، اللتين كانتا هائمتين على غير هدى، وجُذبتا باجتماعهما إلى مدار هادف ذي معنى، ولو عبر تجربة تفطر القلب.

إعداد: علاء العطار