مجلة البعث الأسبوعية

من سورية إلى أوكرانيا.. روسيا تحدد رقعة الشطرنج العالمية وتضع حدوداً للأوليغارشية الليبرالية

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

مما لا شك فيه أن أي شخص عادي في المنطقة العربية وفي آسيا قرأ وفهم هذه الازدواجية المقيتة عند الغرب، أو ما يسمى المجتمع الدولي، الذي أبدى كل حقده تجاه روسيا عقب إطلاق عمليتها العسكرية في أوكرانيا للدفاع عن إقليم دونباس، الذي يتعرض للهجمات من قبل الجيش الأوكراني منذ أكثر من ثمان سنوات.

تحرك الفنانون الغربيون المتعاطفون وهم يذرفون دموع التماسيح بهدف تهويل وغسيل الأدمغة، وجمع التبرعات لأوكرانيا، والالتماسات عبر الإنترنت، إذ بدا الأمر كما لو أن “الحس الإنساني المرهف”، بدأ يتحرك لدى الاتحاد الأوروبي، والذي كان ميتاً تماماً عندما كانت الشعوب العربية والشعوب الأخرى الحرة تتمنى رؤية نفس الحماسة الشديدة، ونفس روح الأخوة، وذرف نفس الدموع من أجل المذابح المستمرة في اليمن والتي ترتكبها قوات التحالف الدولي والتي أسفرت حتى الآن عن سقوط 377000 شهيد، وفي دونباس، التي سقط فيها 15000 قتيل، وفي سورية التي سقط فيها عدد كبير من الشهداء العسكريين والمدنيين على أيدي الإرهابيين والمرتزقة الأجانب الذين استقدمتهم الجوقة الغربية من كل أنحاء العالم. كما سقط في العراق 500000 شهيد بسبب الغزو الأمريكي اللا شرعي للبلاد عام2003، بذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل. كل هذه الجرائم الفظيعة لم تحرك ساكناً لدى هذا الغرب ولم تجعلنا نرى فنانين متألمين يصرخون ويعبرون عن تعاطفهم مع هذه الشعوب. ولم تعر وسائل الإعلام الغربية المهيمنة أدني درجة من الاهتمام لوجود الكتائب النازية في صفوف الجيش الأوكراني، والمعترف فيها من قبل الرئيس الأوكراني وحكومته بالكامل. ولم تذكر يوماً أن هناك ما يقرب من 102000 من القوات شبه العسكرية في الجيش الأوكراني.

وبالعودة إلى الوضع في أوكرانيا ودونباس، فقد كانت أوكرانيا، منذ انقلاب 2014، تحت وطأة العمليات الأمريكية، مما دفع حلف شمال الأطلسي العسكري المعادي لروسيا لمحاولة التقدم نحو الأراضي الروسية، ما أدى إلى توتر العلاقات بين روسيا وحلف الناتو، سيما وأن شبه جزيرة القرم مع القاعدة الروسية في سيفاستوبول باتت مهددة بأن تكون في مرمى الناتو. ولم يرغب سكان القرم أبداً في أن يكونوا جزءاً من أوكرانيا، لذلك تم إجراء استفتاء وصوتت الغالبية العظمى من سكان القرم على العودة إلى روسيا، التي انفصلوا عنها بقرار استبدادي اتخذه خروتشوف في عام 1954. وبالطبع، شجب دعاة الدعاية الغربيون عودة القرم إلى الحضن الروسي.

أما بالنسبة لمنطقة دونباس، المكونة من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، فقد أعلن السكان استقلالهم بسبب انقلاب 2014 والتهديدات بفقدان روحهم الوطنية تجاه روسيا. منذ ذلك الحين، حل الجحيم بهم، وأدى القصف المتتالي من قبل الحكومة الأوكرانية منذ عام 2014 إلى مقتل أكثر من 15000 شخص. وحينها كان بروتوكول مينسك الموقع في 5 أيلول 2014 من قبل ممثلي أوكرانيا وروسيا وجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، يهدف إلى إنهاء الحرب في شرق أوكرانيا. وتركز الاتفاق على وقف فوري لإطلاق النار في منطقة دونباس، والمضي قدماً في انسحاب التشكيلات المسلحة غير المشروعة والمعدات العسكرية من الأراضي الأوكرانية، وانسحاب المقاتلين والمرتزقة غير النظاميين، أي كتائب النازيين الجدد. ولكن لم يحترم الرؤساء الأوكرانيون المتعاقبون هذه الاتفاقية أبداً منذ البداية وظلت منطقة دونباس تعيش في الجحيم على مدى 8 سنوات. وبما أن روسيا لا تقبل توجيه صواريخ الناتو إلى موسكو من أوكرانيا، فقد كانت الدبلوماسية في حالة توقف تام وحقيقي، لذلك اتخذ الرئيس بوتين قراراً صعباً للغاية، ألا وهو حل المشكلة، فهناك فرق كبير بين “من يصنع الحرب ومن يصنع الفخ بحيث تصنع الحرب”. لذلك من الضروري قبل كل شيء الإحاطة علماً بأن هناك ثلاثة تيارات كبيرة توجه الأرض:

1) الأوليغارشية المالية “الليبرالية”، التي تتكون من سياسيين، وصناعيين، وممولين، ورؤساء، وإعلاميين من عشيرة الديمقراطيين الأمريكيين التي يجسدها في الوقت الحالي جو بايدن، و في كندا من قبل جاستن ترودو ، ومن غالبية دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرنسا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا و” اسرائيل”، يضمن أتباعهم المطيعون بيل غيتس، وجورج سوروس، وغوغل، وأبل، وفيسبوك، وأمازون، ومايكرسوفت، التي تركزت مهمتها في نشر الدعاية وتدمير الدول والرقابة.

2) الأوليغارشية المالية “الإمبريالية” ذات الميول القومية الشعبوية، وهي الأخرى مكونة من السياسيين والصناعيين والممولين في عشيرة الجمهوريين الأمريكيين التي يجسدها دونالد ترامب، والتي أصبحت بمرور الوقت منافساً خطيراً للصين برئاسة شي جين بينغ، وروسيا برئاسة فلاديمير بوتين، والبرازيل برئاسة جاير بولسونارو، وفنزويلا برئاسة نيكولاس مادورو، والمجر بواسطة فيكتور أوربان.

3) بقية الدول التي لا تريد أن تنحاز بين الإثنين، وإنما تميل أحياناً لتيار واحد، وأحياناً للآخر، وكل هذا يتوقف على التحالفات والاستثمارات والعقود الاقتصادية.

ومعروف للجميع أن قادة الولايات المتحدة، الذين يحتمون في غطرستهم على أنهم “أمة لا غنى عنها”، لا يحترمون دول العالم الأخرى. ومنذ إنشائها، كانت الولايات المتحدة في حالة حرب ضد دولة أو أكثر، وبالتالي من الواضح أن روسيا تمثل كتلة يجب على الولايات المتحدة مضايقتها باستمرار من أجل إسقاطها. من كوسوفو ويوغوسلافيا السابقة -حيث يوجد معسكرات تدريب للمرتزقة الإرهابيين الذين تم إرسالهم للقتال في سورية – تريد الولايات المتحدة جعل روسيا تنحني، والتأكد من السيطرة الكاملة على جميع دول الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإن الصراع الحالي القائم حول أوكرانيا هو حلقة رئيسية في المواجهة بين ما يسمى الفصيل الليبرالي – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي – والفصيل الاشتراكي -روسيا والصين. أي أن أوكرانيا بعيدة كل البعد عن كونها تدار من قبل المؤثرين.

وهنا من الضرورة بمكان التذكير بالقانون رقم 38 بشأن الشعوب الأصلية الصادر في الأول من تموز عام 2021، والذي يحظر في جوهره، على السلاف -الروس والهنغاريين -التحدث بلغتهم الخاصة. في النهاية، لم يعد السلاف محميين في أوكرانيا ويعتبرون من دون البشر. وهذا هو أول قانون عرقي يتم التصويت عليه في أوروبا منذ 77 عاماً.

بين سورية وأوكرانيا

إذن ما هي العلاقة بين الوضع في أوكرانيا وسورية؟. بادئ ذي بدء، من الضروري أن يفهم الآخرون وبإيجاز كيف ولماذا بدأت الحرب على سورية. منذ عام 2010، هناك احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط في المياه قبالة اليونان وتركيا وقبرص وسورية. يستغل الكيان الإسرائيلي احتياطيات الغاز والنفط السورية في مرتفعات الجولان التي احتلها منذ عام 1981 . وبحسب معلومات من مصادر عديدة نُشرت عام 2012، كان لدى القطريين خطة وافقت عليها إدارة أوباما لبناء خط أنابيب غاز قطري لنقل الغاز إلى أوروبا عبر منطقة حمص السورية.  كان من المفترض أن يبدأ خط الغاز الأرضي هذا في قطر، ويمر في السعودية، ثم الأردن، متجنباً العراق للوصول إلى حمص في سورية، حيث كان سيتفرع في ثلاثة اتجاهات: اللاذقية على الساحل السوري، وطرابلس في شمال لبنان، وتركيا، من أجل كسر احتكار الغاز الروسي في أوروبا وتجنب الشحن البحري الأطول والأكثر تكلفة والأكثر خطورة . ولكن القيادة السورية لم توافق على هذا المشروع، بل وفوق ذلك وقعت مع روسيا في 25 كانون الأول 2013 أول اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في مياهها الإقليمية، حيث سيكون لسورية أكبر احتياطي نفطي بحري في البحر الأبيض المتوسط ​​، مع 2.5 مليار برميل، وهو الأكبر بين جميع الدول المجاورة باستثناء العراق.

طوال عشر سنوات من الحرب الشرسة، من 2010 إلى 2020، دعمت حكومات الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وتركيا ومولت وسلحت الجماعات والمنظمات الإرهابية متعددة الجنسيات من ولاءات متعددة، فضلاً عن الميليشيات الانفصالية. وقاموا بشن اعتداءات عسكرية أحادية وثلاثية على الجمهورية العربية السورية، واحتلت أجزاء من أراضيها، وارتكبوا القتل والتدمير، ونفذوا عمليات تهجير وتغييرات ديموغرافية، ونهبوا ثرواتها الطبيعية والتاريخية من النفط والغاز والمحاصيل الزراعية والآثار، وأحرقوا ودمروا كل ما لم يتمكنوا من سرقته، وبعد انتهاء الحرب العسكرية، فرضوا الحرب الاقتصادية من خلال الإجراءات القسرية أحادية الجانب على الشعب السوري.

كانت الخطة، التي وُضعت قبل أكثر من 20 عاماً، تهدف إلى زعزعة استقرار سورية على المدى الطويل، لذلك يحاول الغربيون، ومن ورائهم الأوليغارشية المالية العالمية “الليبرالية”، بشتى الوسائل، منذ عام 2011، إسقاط الحكم في السوري من خلال مضاعفة الاستفزازات وإذكاء نيران الحرب، وإطلاق التهديدات والإجراءات الانتقامية والهجمات تحت شعارات كاذبة.  ولكن التحالف الدولي هزم في سورية على أيدي الجيش العربي السوري.

في المقابل، وبطبيعة الحال، فإن فصيل الأوليغارشية “الليبرالي” يحاول بكل الوسائل تحقيق غاياته، ولهذا السبب دفع أوكرانيا الى المواجهة مع روسيا لجعل روسيا تنحني. منذ نهاية عام 2013، كانت روسيا عدواً للعالم الغربي، متهمة بكل الشرور: الرغبة في شن الحرب في كل مكان تقريباً، وكراهية المثليين والعنصرية ومعاداة الديمقراطية، ومضاعفة المحاولات المزعومة لزعزعة الاستقرار في جميع الأنواع الهجمات الإلكترونية، والتدخل في الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني 2016.

لماذا؟ بكل بساطة لأنها منعت الحرب العالمية الثالثة، لأنها لا تطيع الكتلة “الليبرالية”، ولأنها بطلة العشيرة القومية الاشتراكية، ولأنها الوحيدة القادرة على مقاومة الأوليغارشية الليبرالية جسدياً، عسكرياً واقتصادياً بفضل تقاربها مع الصين، وبالتالي لأنها تحبط بشدة إنجاز الخطة. وبالمقابل هذا ما تسعى إليه أوكرانيا: محاولة إخضاع روسيا للأوليغارشية المالية “الليبرالية” وجعلها تنحني، وهذا ما يتم التفاوض عليه بشكل مخادع.

 

كلمة أخيرة

في أوكرانيا، نجد أن الولايات المتحدة وحلفاؤها مقابل روسيا، وبالتالي أوكرانيا ليست سوى ورقة وبيدق تستعد الإمبراطورية للتضحية بها على مذبح طموحها للسيطرة على العالم من خلال التخلص من منافسيها الناشئين. لكن الأهم أنه نتيجة الصراع الأوكراني والأزمة السورية، سيتم إعادة توزيع الأوراق. وما يؤكد ذلك أنه حتى قبل الحرب على سورية كانت  غالبية الكرة الأرضية تحت سيطرة القطب الواحد، وسيطرة الأوليغارشية المالية “الليبرالية”، لكن اليوم تقدم مقاومة روسيا وسورية لمحة عن التحول نحو عالم متعدد الأقطاب حيث ستتمكن الشعوب أخيراً من الازدهار دون التأثير الضار لطائفة الحرب الأمريكية، ذلك أن سورية تمتلك مفتاح الشرق الأوسط ومع روسيا، تمسك هاتان الدولتان بمفاتيح مستقبل أكثر تساهلاً لسيادة الشعبين السوري والروسي.