ثقافةصحيفة البعث

وليم بليك.. أرواح باسمة لا تعرف الغل

أنفاسهم عذبة وقلوبهم بيضاء كالدرّ، أرواحهم لا تعرف الغل، ومباسمهم لا تنطق إلا فلسفة الحب، هم زينة الحياة الدنيا وعنوان البراءة، فلا عجب أن نرى لهم روضة غناء في أشعار الشعراء، الذين غنمت قصائدهم بصور زاهية عن الطفولة، وأبرزوا فيها إحساس الأبوة الذي يعتمل في نفوسهم لدى رؤية الأطفال. ولا يجوز لنا ذكر الطفولة في الشعر دون الحديث عن الشاعر الإنكليزي وليم بليك الذي أفصح عن منظور الطفل تجاه الحياة بقلم ذهبي وكلمات معبّرة، وآمن أن الصغار كلهم مثال للبراءة الخالصة، لكن الخبرة التي يكتسبونها في الحياة تدمّر تلك البراءة.

وتمجيد الطفولة هو السمة الرومانسية السائدة في شعر بليك، ويرمز الطفل في قصائده إلى الخير المطلق والبراءة الكاملة، لكن براءة عالم الطفولة الذي تخيله بليك لم تسلم من عناصر تعكّر صفوها. ويظهر الطفل كمصدر للإلهام السماوي أو كروح مشبعة بالقداسة تربطنا بخالقنا في “مقدمة أغنيات البراءة”، وهو ما نراه أيضاً في قصيدة “الحَمَل”، التي يقارن فيها بليك بين براءة الطفل وبراءة الحمل، ويربط بينهما مع جمال خلق الله وإرادته:

طفل أنا وأنت حمل

واسم الله يجمعنا

وهنا، تنبع براءة الطفل في رأي الشاعر من بساطة قلبه وصدق مشاعره اللذين لا تؤثر فيهما العادات والأعراف والأمور الدنيوية الأخرى، وهذا ما يجعله أقرب إلى الله، ويحسّ بوجوده في جميع خلقه. وتمتاز الطفولة عند بليك بحريتها المطلقة وبجذالتها المفرطة، لذا مجّد في “أغنيات البراءة” سمات الطفولة الفطرية هذه ولهوهم وصيحاتهم. ففي قصيدة “أغنية الضحك” أصبح الكائن اللاحيّ جزءاً من مرح الأطفال:

تضحك الروضة الزاهية بالخضرة

وتصدح فيها أغنيات العنادل

حين تغني ماري وسوزان وإميلي

بأفواههن المستديرة العطرة

وعدّ بليك الطفولة فترة براءة لم تتأثر بالتركيبة الاجتماعية المشوهة، ذلك أن الأطفال غير مقيدين في سعيهم وراء الفرح، وهم منعزلون عن السلوكيات التي تدبّ الفرقة في العالم، جلّ همّهم اللعب والتراقص في المروج الخضر حتى يصيبهم التعب أو يشعروا بالشبع، وهذا الذي صوّره الشاعر في “أغنية الحاضنة”:

لا، دعينا نلعب، فلم ينته النهار

والنوم لم ير بعدُ إلى أجفاننا سبيلاً

ثم إن العصافير ما زالت تحلق في السماء

والرُبى مغطاة بقطعان الخراف

يتضح هنا سرور الأطفال أثناء اللعب والغناء والرقص والحديث مع الحمل والطير والزهرة، ولا يودون الذهاب إلى الفراش حتى تتبدى معالم الليل، ويستخدم بليك في القصيدة رموزاً كالحمل والراعي تدلّ على براءة الأطفال والشعور بالأمان.

ولم يغفل بليك عن معاناة الأطفال، فهم يقعون أحياناً ضحية لظلم الراشدين، وتتجلّى معاناتهم لديه في ثلاث قصائد، هي “منظف المداخن” و”خميس العبادة” و”بليك الفتى الصغير”، وفيها يهجو الشاعر المجتمع، ويبيّن كيف يؤذي الأطفال. إذ هجا الشاعر في “خميس العبادة” المجتمع الإنكليزي حينذاك الذي أجبر الأطفال على الاعتماد على الصدقات، وتحدث عن “صغار أضناهم البؤس”، و”تطعمهم يد مرابٍ طاعن في السن”، ويعيشون في “شتاء سرمدي”:

وشمسهم لا تشرق أبداً

وحقولهم جرداء عارية

وطرقهم معبدة بالأشواك

وحياتهم شتاء سرمدي

والأطفال أبرياء كالملائكة، وليسوا أكباش فداء، يذبحون بعادات المجتمع البالية، فكيف لإنكلترا أن تدّعي أنها أرض غنية ومثمرة إن كان أطفالها جياعاً ينتظرون الطعام ممن ندعوهم المحسنين؟.

وفي قصيدة “منظف المداخن”، من مجموعة “أغنيات البراءة”، يسلّط بليك الضوء على بؤس الأطفال الذين يتعرضون لمعاملة وحشية في مجتمع إنكلترا الصناعي، الذي يُلقي بهم في جحيم العذاب الأبدي، ويروي لنا كيف عمل صِبْية يافعون في تنظيف المداخن بعد أن بِيعوا في سوق العمل، ولم يسلموا من المعاملة الرديئة، ولم يعرفوا طعم الراحة والهدوء، وحوّلهم المجتمع إلى آلات تحت الأمر والطلب، وكسروا كل قواعد الإنسانية، فكان الاستلاب عنواناً للتهميش وتشويه البراءة التي صارت على المحك.

وفي “منظف المداخن”، من مجموعة “أغنيات الخبرة”، يحكي الطفل للمجتمع عن والديه اللذين تخليا عنه، وعن الألم والندوب التي تركاها في روحه قبل جسده.. وربما كانت هي ضريبة الثقة الكاملة بهما.

ولأنّي أرقص وأشدو بسعادة

ظنّا أنهما لم يخطآ بحقّي

عكس بليك في أشعاره عن الطفولة أبعاداً نفسية خصبة باحت بما في خلجه من مكنونات حنين لهذا العالم الخالي من الهموم والمليء بالأحلام الوردية السعيدة، ما أبدى عمق الجانب الوجداني في شعره.

علاء العطار