الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

التراحم فانوس رمضان

غالية خوجة

ماذا يعلّمنا شهر رمضان المبارك؟

الصوم حالة فيزيقية تستمر شهراً هجرياً لتجدّد خلايا الجسد الجلدية والهضمية والقلبية والعقلية، مما يساعد على تجديد البناء الجسدي ويمنحه المزيد من الشباب، وكذلك هو صوم ميتافيزيقي يشذّب الأرواح، ويطهر القلوب والسرائر، ويهذّب النفوس، وهذه الحالة من المفترض أن تكون دائمة طوال حياتنا، لتجعلنا صائمين عن كل ظلم وفساد وشر وحرام ومكروه وإيذاء للنفس والآخرين والبيئة والطبيعة، وهذه قاعدة فطرية تتطلّب منا مراجعة أنفسنا دائماً لنستمر بالمحافظة عليها من خلال كيفية توظيفها في التعامل مع الذات والآخرين والعالم والكون.

ولن نصل إلى هذا التطهر الداخلي إلاّ عندما نمنع حواسنا عن شرورنا كمقدمة، ونطور بناءنا الجواني، ليكون النقاء محور رسالتنا في هذا الوجود وقيمه الأساسية من الصدق والأمانة والمسؤولية، مما يساهم في تشابك الأخلاق في مجتمع ما انطلاقاً من الفرد الذي هو الخلية الأولى التي إن صلحت صلح المجتمع وأصبحت الحياة أجمل.

الشهر الفضيل يزورنا ليعلّمنا أن نتعامل مع أنفسنا أولاً بجمالية بنائية لا شكلية، ويذكرنا بأن الفرصة لم تفت لنبدأ من جديد، مستذكرين جملة قرآنية افتتاحية شاملة مؤلفة من 19 حرفاً “بسم الله الرحمن الرحيم”، لتكون قاعدتنا الذهبية في التعامل مع أنفسنا وبيننا، وأن نقدّر حقوق  كل ذي حق، ونطبق “كلكم راع وكل راعٍ مسؤول عن رعيته”، وهذه رحمة من الله تعلّمنا الرحمة والتراحم والمحبة والتوادد والتآلف والتعاضد من أجل إعمار الأرض لا خرابها.

وفي الزمن البور والبوار، بعيداً عن “الأرض الخراب” للشاعر إليوت، لا نريد المزيد من “أزهار الشر” التي زرعها بودلير، لأنها مدمرة للجمال الفعلي، ولنعتبر من رواية تولستوي وأمثالها عن “الحرب والسلام”، ولنوظّف الحرب في تقويم ما تعرج من دواخلنا وقيمنا كأفراد، لنصل إلى السلام الروحي والنفسي والاجتماعي والحياتي.

لا يأتي الشهر الفضيل ليعذبنا، بل ليسعدنا ونحن نمتنع ليس عن المشرب والمأكل فقط، بل عن الغضب والنميمة والشائعات والظلم والظلمات، ويعلمنا كيف نحجب حواسنا عن الزلات والمذلات، وأن نتأمل جوهر الوجود ونفتح بصائرنا على النور لنستزيد من النور، ونجسّده عملاً في سلوكنا اليومي لنرتقي فرداً فرداً، وجمعاً جمعاً.

ومما نتعلّمه من رمضان العطاء بتواضع، والكرم بمحبة، لنتابع قيمنا الأصيلة في مجتمعنا الطيب، ولذلك، نلاحظ العديد من المبادرات الإنسانية لفاعلي الخير أشخاصاً أو هيئات أو جمعيات أو جهات متنوعة، ومنها مبادرة “الناس لبعضا” التي يقدّمها الإعلامي الحلبي شادي حلوة مردداً: “الإنسانية لا جغرافيا لها”، ونتمنى أن تكون هناك مبادرات ميدانية في كافة أرجاء سوريتنا الحبيبة تنظمها الجهات المسؤولة ليكون العطاء لمن يستحق من الناس، ومنهم ذوو الدخل المحدود، موظفين وعمالاً، وأن نساهم في توظيف العاطلين عن العمل، وأن يرفد التّجار الميزانية لتزداد الرواتب، وأن يعطي أصحاب المولدات الأمبيرات مجاناً في هذا الشهر، وأن تكون العدالة السوقية قائمة على معادلة التناسب الطردي بين الدخل والأسعار، فلا يعقل أن يكون الشهر الفضيل باباً لمزيد من النصب والغبن والنهب!.

فماذا لو حارب البائع وتاجر الأزمة شيطان الجشع؟ وماذا لو رجم كل إنسان القسوة والحقد والكراهية والانتقام والكذب والتحايل والرشوة والفساد والإفساد؟ وماذا لو شعر كل منا أنه مسؤول عن هذه الحياة؟ وكيف يمكن أن تكون أفضل وأكثر إنسانية وعدالة وجمالاً؟ وماذا لو رسّخ في نفسه وعائلته ومجتمعه محبة الأخلاق والإنسانية لتكون بحدّ ذاتها فانوس رمضان؟.

gbaathmag@gmail.com