ثقافةصحيفة البعث

قراءة في رواية بعنوان “من أين نجلب وطناً”

“وكأن الذكريات تنهال عليه دفعة واحدة، من أين نجلب وطناً” رواية للكاتبة ليزا ياسين هولا، صدرت عن دار أرواد للطباعة والنشر، بـ ٣٦٧ صفحة.

عندما بدأت القراءة وجدت نفسي غارقة بتفاصيل موجعة وبأحلام ترتدي وشاح الألم، فكانت الحروف تتلاطم كموج البحر على ساحة الروح التي ما تعبت من هول الأحداث على جسد هذا الوطن الشامخ والعابق برائحة الشهداء والنصر، لتبدأ الكاتبة بإهداء لروح أبي وطني الدافئ الجميل، ولحراس الفجر وشهداء السلام، لهذا الوطن الصامد. فقد استطاعت الكاتبة تقديم سرد مشوق متناغم رشيق الكلمات لتكون جميلة هي تلك الفتاة التي شهدت الكثير من الأحداث الموجعة، وحبيبها علي الجندي الذي رسم مواسم الفرح والأمل على شفاه المتعبين، فتلك الفتاة جميلة هي التي تسافر مع أمواج البحر وحكايات النورس وجدها الذي يحكي لها تاريخ البطولات، فكل الأحلام مغادرة لم يبقَ غير الذكريات التي تضفي لحظات حزينة وأمل مسربل بالوجع والجراح لتقول في مقطع منها: “هنا هو الشوق يحملني لمعانقة أبي هناك ولو للحظات منبثقة من تحت ركام، هذا الواقع المرير من خلف قضبان الحرب الظالمة تلك.. لملامسة جراحه النازفة كي تسرد لي معاناته تلك”.

رغم الواقعية لدى الكاتبة التي حكمتها منطقية الرواية بين المعرفة بما حولها وبين بواطن ومعاناة التجربة، تأتي الألفاظ ذات دلالات وبراعة لفظية، أي أنها تتسع لمدلولات عدة تشير إلى المجرد من الحالة، وربما لعين الحالة المجسّدة في وجع ما في ذات ما، وقد أجادت الكاتبة وبرعت باستخدام اللغة المحكية التي زادت من جمالية الأحداث، والتي تشدّ القارئ لواقع تتقطر أنفاسه بتلك الحروف، فكيف وأن الكاتبة استطاعت بذكاء متقن تصوير الواقع المؤلم والحرب والظلم والموت بأبشع وسائل الموت والاغتصاب والإعاقات التي خلفتها الحرب والحالة النفسية، كل هذا من تبعيات الإرهاب والحرب على أرض هذا الوطن، فبالإضافة لهذا السرد الإبداعي المكثف أيضاً تناولت جوانب إنسانية وحالات اجتماعية واقتصادية، فقصة الحب بين جميلة وعلي الذي استشهد في الحرب تركت وشاح الحزن تحت عباءة الذكريات، وفي مقطع آخر تقول الكاتبة: “كانت أم محمد قد أعدّت الشاي، أغلقت جميلة النافذة وصدح صوت المذياع من الداخل ليخرج المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع السورية في مقدمة نشرة الأخبار حاملاً البشائر للشعب المنتظر المترقب.. ناطقاً عباراته المزلزلة تلك التي طالما عشقها الشعب الحر الشريف واشتاق لها، وهتفت لها القلوب، صدح صوته موجهاً الشكر والامتنان للشعب والجيش البطل وانتصاراته الساحقة”.

استعملت الكاتبة في صياغتها الفنية في السرد، ولم تكتف بهذه الطريقة بل وظفت الحوار للتعبير عن مواقف الشخصيات واستنطاق وجهات نظرهم ومنظوراتهم الإيديولوجية، كما شغل الأسلوب غير المباشر الذي يختلط فيه كلام السارد والشخصية والذي يتحول في عدة مقاطع نصية إلى مونولوج أو مناجاة تعبّر عن الطرح الداخلي والتمزق النفسي. الرواية تحمل بعداً اجتماعياً ومشاعر فارهة من الحب، فظهر الأسلوب متناغماً رغم ظواهر التوتر أحياناً والصراع الاجتماعي والإنساني مع الحب والحرمان والخوف والأحلام المنهكة. وقد أعطت الكاتبة الرواية طاقاتها الأدبية في توظيف بليغ في رفع مستوى التعبير، مما يجعل القارئ يغوص في السرد على وجه الخصوص، وقد غلب الواقع على الخيال بين سطور الحوار الوجداني في الرواية، ودخلت اللمسات الفنية لتكون حافلة وزاخرة بالأحداث المثيرة وتواريخ زمنية وترتيبها ودقة وصفها، فالعنوان وحده وصف فني وإثارة فضول القارئ ومساءلته لقناعته ليزداد الشغف بقراءتها مع الحوار الذي يضفي صيرورة البعد الرمزي للرواية، ويعدّ هذا العمل الروائي بقالبه الإبداعي المتميز قصة متسلسلة لها بداية ونهاية، فالكاتبة ليزا عمدت إلى آلية اختزال الأفكار وتكثيفها لتصبّ في عمقها الدلالي وتركت للقارئ فسحة واسعة للتخيل والتحليل والاستيعاب، وذلك ضمن قالب أدبي فني بديع جمعت فيه الكاتبة بين جمالية الأسلوب وعمق المعنى وجاذبية العمق الروائي، وقدمت تشريحاً كلياً لواقع ممتدة فيه الأيادي الظالمة المتأرجحة لتعي ما يجري، وما هو حاصل في أزمنة الجبن، إنها فوضانا الضائعة بتراتبية زمنية مملوءة بالحزن السرمدي والشجن الأزلي، فنجد شهقة الوجع تظلله أوراق الأنا المزكومة بالشرود الملتحم مابين الذات والذاكرة، رواية مؤثرة جداً تأخذك لتفاصيل عشناها. وفي مقطع آخر تقول الكاتبة: “كان علي ومازال يتنفس عشق الوطن.. يلفظ أحرف سلمى وخضر وجميلة وهو ينازع والدموع محيطة بالمشهد تعلن ضعفها حتى اللحظة الأخيرة”.

رواية تستحق القراءة والاهتمام رغم مواجع الفراق والألم مازال الوطن يزهر بدماء الشهداء.

هويدا محمد مصطفى