دراساتصحيفة البعث

الوجه الحقيقي لبريطانيا.. اليمن وأوكرانيا مثالاً

سمر سامي السمارة 

يتشاطر اليمن وأوكرانيا مصيراً مشتركاً، فكلا البلدين أصبحا متورطين في صراعات يرغب بها قادة الغرب. وتشير الوقائع بكل وضوح إلى أن تحريض الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة “إمبراطورية الكذب والرعب”، لحكام أوكرانيا النازيين الجدد ضد روسيا بدأ منذ سنوات، فعلى امتداد السنوات الثماني الماضية كان الجيش الأوكراني، الذي تتمثّل مهمته الرئيسية بحماية حدود بلاده، يقصف بشكل منهجي -بأمر من أصحاب القرار في واشنطن ولندن- السكان المدنيين في دونباس بالأسلحة الغربية. لكن كل ذلك لم يكن كافياً للاستراتيجيين الغربيين الذين استمروا في الضغط على الوضع في أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً ومالياً، ليس فقط لعزل روسيا ولكن لتدميرها، خاصة وأنه حلم يراود بريطانيا منذ 400 عام.

أصبح من المسلّمات أن الغرب يفضّل دائماً استخدام أدواته لتنفيذ حروبه، وهو الآن يزوّد النازيين الجدد الأوكرانيين بكميات هائلة من الأسلحة عالية التقنية، حيث تقوم الطائرات البريطانية والأمريكية بتسليم الأسلحة إلى كييف في سباق مع الزمن. وتصل الأسلحة، بما في ذلك صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات أمريكية الصنع، إلى أوكرانيا، ومع ذلك تدّعي الحكومات الغربية في كل مكان عدم انخراطها بشكل مباشر في صراع مع روسيا. لماذا؟ هذه المرة لأنها وجدت طعاماً رخيصاً للمدافع على أراضي الأوكران الذين سيموتون الآن بالآلاف ثم عشرات الآلاف والملايين لمصلحة الغرب الذي يقودهم. يحدث الشيء نفسه في اليمن البعيد، حيث شنّ قادة الغرب حرباً بين الأشقاء من أجل مصالحهم الجشعة!.

يحاول القادة الغربيون، ولاسيما في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أن يدّعوا أن تدخلهم في أوكرانيا للدفاع عما يُسمّى بحقوق الإنسان وحق عدم تدخل دولة في شؤون دولة أخرى، مع أن العالم لم ينسَ بعد كيف “دافعت” واشنطن ولندن عن حقوق العراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين.

وهنا لابد لنا من الإشارة إلى أنه، في الوقت الذي يعرف العالم الكثير عن “حروب” الولايات المتحدة، لم يتمّ تسليط الضوء على “أنشطة” بريطانيا، ومنها تدمير الشعب اليمني من خلال إمداد التحالف بكميات ضخمة من الأسلحة.

مرّ أكثر من سبع سنوات على الحرب التي يشنّها التحالف على اليمن وبدعم كبير من الغرب، ولاسيما بريطانيا. ومنذ ذلك الحين، وبحسب الأرقام الرسمية وحدها التي تقدم عدداً أقل من الواقع، لقي أكثر من 230 ألف شخص حتفهم، فضلاً عن وجود 24 مليوناً بحاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية، وأكثر من 13 مليوناً على شفا المجاعة، أو بعبارة أخرى مهددين بالانقراض.

تقول الأمم المتحدة إن اليمن أصبح “أكبر أزمة إنسانية في العالم”. ولئن كانت هناك أسباب كثيرة للمعاناة، فإن أكثرها وضوحاً وتدميراً كان القصف البريطاني للبلدات والقرى والبنية التحتية والمستشفيات والأسواق.

منذ البداية، صادقت الحكومة البريطانية على هذه الهجمات الدموية، فقد دعمت حكومة كاميرون قوات التحالف عندما أعلنت الحرب في آذار 2015، حيث أعلن وزير الخارجية آنذاك فيليب هاموند أن بريطانيا “ستدعم التحالف بكل الطرق العملية”. وعلى الرغم من وجود قدر هائل من الأدلة على جرائم الحرب التي ارتكبت منذ ذلك الحين، صرّحت بريطانيا مراراً وتكراراً أنه لا يوجد دليل جاد على انتهاك للقانون الإنساني الدولي في اليمن. في الواقع، كانت بريطانيا في طليعة مقدمي الحماية الدبلوماسية لقوات التحالف، الأمر الذي عرقل بشدة المبادرات الدولية المختلفة للتحقيق بشكل مستقل في جرائم الحرب.

هنا لابد لنا من التساؤل: لماذا كانت بريطانيا، التي تتفاخر باستمرار بدعمها لحقوق الإنسان، مستعدة لإلحاق مثل هذا الضرر بمصداقيتها الدولية من خلال دعمها غير المشروط لقوات التحالف في هذا الصراع الدامي؟ في الحقيقة، أحد الأسباب المقنعة هو  توفير سوق مربحة لمبيعات الأسلحة، حيث تظهر أدلة جديدة على مدى ارتباط تجار الأسلحة بالجيش البريطاني والآلة الدبلوماسية البريطانية عندما يتعلق الأمر باليمن.

وبالفعل، نشر مؤخراً، موقع “دي كلاسيفايد” تفاصيل اجتماع سريّ بين مدير شركة أسلحة كبرى ووزيري الدفاع والخارجية البريطانيين في كانون الثاني 2016، وذلك في ذروة القصف على اليمن، لكن لا يتوفر أي سجل رسمي لما تمّت مناقشته في الاجتماع الذي حضره وزيرا “المشتريات الدفاعية” فيليب دن، و”الخارجية” توبياس إلوود آنذاك. وبحسب الموقع، “لم يعلن أي من الوزيرين عن الجلسة المتعلقة بسجلات الشفافية خلال الاجتماعات الخارجية للإدارات، حيث يُطلب من الوزراء تسجيل الاتصالات مع تجار الأسلحة”. بعبارة أخرى، مرت الصفقة دون أن يلاحظها أحد من الهيئات الرسمية، ووضعت الأرباح الضخمة سراً في جيوب الأفراد.

من الجدير بالذكر أن الاجتماع لم يكن ليخرج إلى النور أبداً لولا نشر مذكرات آلان دنكان، وزير المحافظين السابق الذي غاب عن الانتخابات الأخيرة هذا العام. يقول دنكان إن الاجتماع نظمته “اللجنة الاستشارية الخليجية” بوزارة الدفاع لمناقشة أسعار النفط والزيارات المستقبلية لمنطقة الخليج من قبل رئيس الوزراء آنذاك، ديفيد كاميرون، وآخرين. وتُظهر البيانات التي رُفعت عنها السرية أن الوزراء نفوا في البداية وجود اللجنة، لكنهم اعترفوا لاحقاً بوجود “مجموعة استشارية خليجية”. ومع ذلك، تؤكد الحكومة أنه لا توجد سجلات لمحضر اجتماع عام 2016، كما أقرّت أنه تم دعوة ريتشارد بانيجيان، مدير شركة الأسلحة الأمريكية رايثيون إلى الاجتماع.

بعد ستة أشهر على ذلك الاجتماع، نشر موقع “ميدل إيست آي” أدلة قاطعة على أن التحالف بدعم من المملكة المتحدة كان يستهدف المدنيين اليمنيين في انتهاك صارخ لقواعد الحرب. وقد شهد العالم التدمير الوحشي للمنازل اليمنية، بينما أكد الأطباء أن الحصار غير الشرعي على اليمن يمنع الأدوية الحيوية والمعدات الطبية من الوصول إلى البلاد.

لم يتغيّر هذا الموقف الكئيب في ظل إدارة ترامب، لكن هناك أدلة دامغة على أن ثمة تغييراً في المزاج الدولي مؤخراً، ومع ذلك، حتى يومنا هذا، تواصل الحكومة البريطانية تصدير الأسلحة ودعم قوات التحالف.

وفي تناقض واضح، تواصل الحكومة البريطانية ممارسة نفوذها واستخدام علاقاتها الخاصة مع واشنطن، حيث تستمر بتصدير الأسلحة ودعم قوات التحالف في حربها الدامية على الشعب اليمني. على الرغم من أنها صادقت على معاهدة تجارة الأسلحة في عام 2014، حيث أصرّت خلالها على عدم بيع الأسلحة إلى دول في حالة وجود خطر كبير يتمثل في أن استخدامها سيتعارض مع القانون الإنساني الدولي. لكن هناك أدلة كثيرة على هذا التناقض في دعم  قوات التحالف ضد اليمن، حتى لو لم تعترف بريطانيا بذلك.

وبالمناسبة، لا تعترف لندن بهذه المعاهدة التي وقعتها، وتزوّد النظام النازي الجديد في كييف بكميات متزايدة من الأسلحة الحديثة وتحرّضه ضد روسيا. وتجدر الإشارة إلى أن بريطانيا سعت طوال الأربعمائة عام الماضية إلى “إحداث فوضى” في روسيا حيثما كان ذلك ممكناً.

في غضون ذلك، تستمر الحرب مسبّبة بؤساً لا يوصف، مع تصاعد معدل سوء التغذية الحاد في خضم وباء عالمي. وكانت توقعات الأمم المتحدة لليمن لعام 2021 مذهلة، فأكثر من 400 ألف طفل دون سن الخامسة معرضون لخطر الموت جوعاً، بينما يتوقع أن يواجه 1.2 مليون امرأة حامل أو مرضع و2.3 مليون طفل دون سن الخامسة سوء تغذية حاد. ومع ذلك، أعلنت بريطانيا أنها ستخفض المساعدات الإنسانية لليمن في 2021- 2022 بأكثر من النصف، بينما تستمر مبيعات الأسلحة بمليارات الجنيهات. ومؤخراً، اتهمت منظمة “أوكسفام” الحكومة البريطانية بإطالة حرب اليمن من خلال السماح بتصدير معدات إعادة التزود بالوقود جواً والتي يمكن استخدامها لمساعدة قوات التحالف في إجراء قصف عشوائي.

من المؤكد أن الجمع بين هذين الدورين -حتى وفق المعايير الغربية- عمل غير أخلاقي، وخيانة لكل ما تدّعي بريطانيا أنها تمثله على المسرح الدولي. وقد أصبح التناقض مقلقاً للغاية. فمنذ اندلاع الحرب على اليمن، لعبت بريطانيا دور “حامل القلم” الممثل والمدافع عن مصالح اليمن في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد تفاخر مؤخراً وزير الشرق الأوسط جيمس كليفرلي بهذا الأمر في البرلمان، مصرحاً بشكل غوغائي أن بريطانيا استخدمت هذا الدور “للمساعدة في دفع عملية السلام في اليمن إلى الأمام، والعمل مع شركائنا وحلفائنا في الأمم المتحدة لضمان استمرار اليمن كأولوية قصوى بالنسبة إلى المجتمع الدولي”.

لكن، إذا كان المجتمع الدولي يريد حقاً السلام في اليمن، فقد حان الوقت لإرسال رسالة إلى بريطانيا: إما التوقف عن بيع الأسلحة، أو التخلي عن دور “حامل القلم”،  فالجمع بين الصفتين أمر غير أخلاقي. أما الوقائع فهي تؤكد أنه هذا هو المنطق البريطاني، حيث تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر، وتفعل ما يتماشى مع مصالحها، حتى لو كان يتعارض مع القانون الدولي والأخلاق!.