ثقافةصحيفة البعث

“كان يا ما كان.. شباك”.. معرض تجهيز في دمشق القديمة

سعت الفنانة الدكتورة بثينة علي منذ سنوات لإقامة معرض لها في مكان حيوي من مدينة دمشق، يقوم على فكرة تجهيز الموقع لعرض فن من نوع آخر، يكون قريباً من الناس، يشاركهم المكان الذي يعبرون منه إلى قلب المدينة، وتقوم الفكرة على مبدأ فن التجهيز القائم على إحداث تغيير في المكان من خلال إضافة عناصر جديدة وتركيبات أخرى من مواد مسالمة، وكان الخيار أن تتوزع الآلاف من طيور الحمام في فضاء المكان، وقد وقع الاختيار على موقع جسر السيد الرئيس، إلا أن الظروف آنذاك جعلت من المشروع مؤجلاً، وها هو اليوم يولد من جديد في مكان آخر قريب من باب توما في محيط صالة سامر قزح للفنون الجميلة والبيوت المجاورة والأزقة والزوايا القريبة من المكان. تقول الفنانة بثينة علي: “لم أكن أنتظر ما يحدث اليوم، كان حلمي أصغر، لكن بعد 11 سنة حرب.. أحلامي أحلامهم، أحلامها أصبحت أكبر بكثير لأفتح مصنفي من جديد فأخرج منه أوراقاً ومخططات قديمة، نبني أحلاماً جديدة أكبر من حلمي بكثير.. شكراً لكل من أحب الفن فهو هواء مدينتي”.

فقد استطاعت الفنانة بثينة علي ومجموعة من طلابها وخريجي كلية الفنون الجميلة المميزين عرض هذا المهرجان “كان يا ما كان.. شباك” والمؤلف من آلاف طيور الحمام المصنوعة مسبقاً من مادة “الريزين” وباستخدام الأسلاك والحبال والشبك المعدني من بناء هذا العالم البصري الغني برمزية عالية قدّمها شباب متحمس ومتطلع للغد والتعبير بالفن عن أحلامه وأفكاره الخلاقة.

تقول رنيم اللحام وحسن الماغوط عن عملهما التركيبي “رحيل”: خلقنا من رحم الرحيل، نخرج للبحث عن حلولنا نذهب لنغيّر جذورنا ولكنها أقفاص تحيط أجسادنا وتثقلنا، أقفاصنا داخلنا منا وفينا لا ندري من داخل من؟! ماضينا، حاضرنا، مستقبلنا، هي أقفاصنا التي تتنوع أشكالها، إننا سرب طيور نستعد دائماً للرحيل من أجل الأفضل.. إلى أين؟.

وتضيف جمانة مرتضى “أنا هنا”: لوحتي هنا في هذا المكان، بهذا القياس للمرة الأولى ستكون ببعد ثالث لتدخل داخلها، ألواني شفافة تعكس حقيقتي، سأنشرها في كل الزوايا، وطائري الأبيض هو لمسة ضوء من سمائي.. إنها الآن تلامسني، إنها روحي، إنها لوحتي.. وأنت الآن داخلها.. أنا الآن أتنفس!

أنوار الأخضر “أقفاص”: حمامة حرة بفطرتها تطير وتحلق، لكن ماذا يحصل لو لم تكن في البيئة التي تناسب طبيعتها؟ هنا في عملي أسلّط الضوء على حالة التناقض بين الطبيعة الذاتية للفرد والمكان الذي يولد فيه، أسلّط الضوء على الحالة العقلية التي يكون فيها في مواجهة نفسه والخارج.

جوان شعبو “دحض”: في العقد الماضي لم تعد المفاهيم في العقل الجمعي ثابتة، ولكن نراها أحيانا معكوسة.

مهند السريع “كشة”: لو عكسنا الصورة ورأينا ما يراه الحمام هل ستسمع هذه الضوضاء؟ هل سترى الخراب؟ إنه ألم وألم ومعاناة، نظرت عن كثب مرة أخرى، ماذا رأيت؟ بصري ضعيف، لا أستطيع أن أرى سوى المعاناة، الحمام يحوم ويحوم، هل ستأتي علامة السلام إلى هذه المدينة الرمادية التي تفوح منها رائحة الدم؟.

زينة تعتوع “رسالة”: تعلو الأسوار من حولنا، تغرقنا في ثقب أسود، لا أحد يرانا.. الجميع يعلم بوجودنا، ولكننا مجرد أرقام.. الحب، الحزن، السعادة، التعب، الأماني والغد، ما زلنا هنا رغم كل الدمار، تعلو أسراب الحمام فوق سمائنا تخبرني بما رأت في أسفارها.

قرأت في طفولتي أن الحمامة ساعدت نوحاً في الخلاص بعد الطوفان.. أجل لا تحتاج لجوازات سفر أو خريطة، أجنحتها.. أجنحتها فقط تفردها لتطير إلى أي مكان، أرض، سماء، ثلاثمائة حمامة تحمل رسائلنا.. أحلامنا لعلها توصلها إلى من يرأف بنا.

جلنار الصريخي “عجز”: أنا أردت أن أرى خوفي! جميل رغم قباحته، موجود فحسب.. هو واقعنا المقلوب! عجزنا فيه آتٍ من الخوف، من الألم، من التعب، هنا أن تشعر بالخوف يعني أن تستيقظ لترى نفسك! أنت لست أعمى، يمكنك أن ترى، أنت لست ميتاً، أنت مكبل فقط، أنت الحمامة.. أنت طريدة هذا الصيد الجائر.

زينة طيارة: روح جندي رحل تختار جسد حمامة بيضاء تسكنها لتحملها إلى جنته.. دوامة تدور وتدور على صدى أنغام حزينة.. سعيدة، وبين الحمامة والدوامة أرواح الجنود تدور حولنا من جنتهم.. كذلك يدور الزمن.

كريم الخياط “يوميات قذيفة هاون”: صوت انفجار.. حالة ذعر وأسئلة كثيرة أصبحت جزءاً من حديثنا اليومي، طريق العمل، المدرسة، الجامعة، لعبة قمار بتفاصيل مختلفة.. صوت.. فخسارة، عامود نار في مكان ما.. دماء، أشلاء، ضحايا وأنقاض. ومن وسط الموت يتنفس أحدهم من جديد، فترة كانت صعبة جداً، أنستنا إياها صعوبات الحياة، لكن الخسارات تحيي ذكراها كل يوم.

مهند البيك “القناة الثالثة”: حفيف، خرير وزقزقة، أستطيع سماع صوت تنفسي، كل الحمام جالس مستقر، أصبحت المدينة لهم، هاجر الجميع، المكان خالٍ، اليوم أشعر بدفء الشمس وعصف الهواء، إطلالة نافذتي.. بيتي اليوم رغم عدم تغيرها أراها أجمل، مكان في المستقبل.. غرفة مهجورة تغطيها النباتات وأعشاش الحمام.. يعاود التلفاز بثه من جديد بشكل عشوائي.. عارضاً ما بين الماضي والمستقبل.

بيير حاماتي “العشاء السري”: سألت نفسي: ماذا فقدت في سنوات الحرب؟ الحب؟ الرغبة؟ الإيمان أم الأمان؟ جوابي كان غالباً.. نعم. ماذا عن أسرار الحياة؟ أما زالت كما هي ؟ ماء.. كهرباء.. طعام.. سألت من حولي رأيهم، سمعت أصواتهم، كتبت أفكارهم، شعرت بها، كانت متشابهة، وكأننا على طاولة واحدة نتشارك الطعام نفسه، أطباقنا هي حاجاتنا.. لكنها أصبحت فارغة. كالطيور تأتي وتأخذ طعامها وترحل، أهكذا تذهب منا أشياؤنا أم أنها تسلب؟ أدركت أن يسوع المسيح في عشائه الأخير علمنا قدسية الأشياء.. طعامنا حاجاتنا، أحلامنا، وحقوقنا لم تعد بتلك القدسية.

دانا سلامة “من أنا”: نرى الحمام.. فنرى الحب، الأمان، السلام، نرى الغراب.. ماذا نقول؟!. نغلق عيوننا لا نريد أن نرى.. لا نريد أن نسمع، أرواح متشابهة.. طرق مختلفة من أنا؟ من أنت؟ من نحن؟!.

ليلاس الملّا “بيت”: بيتك بالهدوء والظلام سيهدهدك ويغني لك لتنام، وإن طال النوم ولم تتجرأ على الطيران كل قليل، بيتك نفسه سيخنقك، يسحقك، يلتهمك بالهدوء والظلام نفسهما اللذين غنيا لك لتنام.. تصبح تهويدة النوم نفسها تهويدة الموت.

آلاء حبوس “حلم”: حلمي حمامة بيضاء تطير في السماء.. تحمل السلام.. تحولت إلى حطام! سأسير على حطامها علّي أستمر. عشر سنوات وأنا أسير.. وأسير، لا أسمع سوى أصوات تحطمها بتفجيرات مختلفة، لا أسمع سوى صدى خطواتي على بقاياها.. إنها تمزقني.. سأحلم من جديد.

حمود رضوان “في تلاشٍ مستمر” فيديو وشاشات متعددة تعرض صور أصدقائه الذين رحلوا ترافقهم ظلال طيور الحمام ويتلاشون كلما عبرنا تحت هذه الشاشات لأن حدود الصورة تغيب بفعل الزمن وابتعاد الضوء الحامل لصورهم.

مشاهد لا تخلو من تراجيديا يعيشها هؤلاء الشباب وقدموها بخلق جديد ومؤثر فاتحين الباب على مصراعيه للفن المعاصر والجديد الذي يطرق أبواب تفكير تعبير جديدة تتجاوز فكرة اللوحة التقليدية والرسم بالألوان، فقد أضحى التعبير يأخذ مجالاً واسعاً يتورط فيه المشاهد والفنان معاً في موقف جمالي مفتوح على التأمل واستثارة الأسئلة المبدعة.

في نهاية العرض، لا بد من التنويه بجهود فريق داعم ومساند لهذه الكوكبة من المبدعين، إنهم أولئك الفنيون الذين رافقوا الفنانين في عمليات التجهيز وقدموا لهم كل مستلزمات نجاح الفكرة، وإلى سامر قزح الرجل الذي يتبنى منذ سنوات مشاريع فنون الشباب ويقدم لهم كل العون، سواء بفتح دارته للملتقيات المتخصصة بالنحت والتصوير الزيتي والضوئي، أو إقامة العديد من المعارض داخل القطر وخارجه.

أكسم طلاع