الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

القوة  مهزومة.. لا ريب!

أبداً، لم تكن القوة، في يوم من الأيام، مدعاة للمباهاة التي تبقى وتُخلد، بل لم تكن الحاطب للخوف، ولا الباعث على الطمأنينة في أيّ زمن من الأزمان التي عرفتها البشرية، القوة تغوّلٌ، وعماءٌ، ودورانٌ حول النفس، وارتطام حقيقي، ولو بعد حين، في دائرة الزوال والبهتان.

قوة إسبارطة، التي مجّدتها الكتب، وعلت بها الخطب، وأثنت عليها المعابد، ولت واندثرت، ولم تحفظ أسبارطة المكان، ولا أسبارطة التاريخ والشعب، ولا أسبارطة الثقافة، لأن القوة ليست ثقافة، الثقافة معارف، وآداب وفنون، الثقافة حضارة!

وقوة الأفراد، من أخيل، إلى الإسكندر، إلى شمشون، إلى جنكيز خان.. هي الأخرى لا تصنع حياةً لأنها تعمل لدى الظلم، والعماء، والجهل، إنها الفعل الأخرق الذي لا يورّث سوى الندم.

أمدُّ هذا السّطر، وقلبي يحترق، وروحي في نشور، وأنا أرى القوة الإسرائيلية العمياء في بلادنا العزيزة فلسطين، وهي تبطش بأبنائنا الصّغار والكبار، والذكور والإناث، وفي كلّ الأمكنة من أعالي الجلي إلى آخر البلدات والقرى في الساحل والأغوار، وفي داخل البيوت والمدارس ودور العبادة، وفي الليل والنهار.. تسفك الدماء بلاد رادع، بلا ناهر، بلا غاضب، إلا من عصم ربك، فيبدو أبناء فلسطين وحدهم يتقاسمون أذيات ما يقترفه السلاح الإسرائيلي الأعمى، بعضهم إلى المعتقلات والسجون، وبعضهم إلى المقابر، وبعضهم إلى المشافي، وبعضهم إلى الحزن والأسى اللذين صارا أبراجاً توازعتها القرى والمدن والحقول والشوارع والساحات الفلسطينية!

منذ بداية هذه السنة، اعتقل الإسرائيليون قرابة 2000 من الفلسطينيين الذين يواجهون همجيتهم وغطرستهم تجاه القرى والمدن والمخيّمات، ومثلهم أيضاً كانوا في مواجهة رصاصهم القاتل، ومثلهم أيضاً مهددون بالاعتقال والاحتجاز، ومثلهم متوارون لأنهم مطلوبون، ومثلهم يتحفزون لمواجهة الإسرائيليين ليس في جنين ومخيّمها فحسب، وإنما في نابلس وضواحيها، والقدس وضواحيها، والخليل وضواحيها.. إذا، المواجهة بادية وواضحة وجلية تماماً ما بين قوة السلاح الإسرائيلي، وقوة الحق الفلسطيني، وهذه الثنائية متوازية منذ سبعين سنة وأزيد، فلا يسلّم الإسرائيلي بأن قوته لن تأتي بالأمن والأمان، ولا بما يتشدق به من سلام، لأن أمنه وأمانه يعنينان محو التاريخ وطيّ الجغرافية ودوس الكرامة الفلطسينية، ولأن السلام الذي يراه ويدعوه إليه هو سلام انتصار القوة بعد إبادة الفلسطينيين، أهل الأرض وأصحابها، وجعلهم قرى ومدناً من المقابر فحسب، وهذا مستحيل، بل أكثر من مستحيل!

وعلى الإسرائيلي الذي قتل بتوحش وصلافة وهمجية عشرات الشبان الفلسطينيين في الأيام الأخيرة، ونحن في حرمة شهر رمضان، أن يعرف ويدرك ويعي أنه يزيد قناعةَ الفلسطينيين قناعةً بأنه غاصب وسارق ومحتل ووحش دموي ونازي بثوب جديد، وأن الاسرائيلي الجديد ورث الدموية عن الاسرائيلي القديم، وهذا ما جعل مواجهة الفلسطيني له وراثة وطنية أيضاً، لأن الأب رأى الإسرائيلي رأي العين وهو يقتل الجد، ولأن الابن رأى الإسرائيلي رأي العين يقتل أخاه، ولهذا فإن المواجهة آبدة حتى يرحل الاحتلال لأن الحياة ليست حياةً إلا في ظلال الحرية والعدل والسّيادة والكرامة!

وعلى الإسرائيلي أن يتوقف طويلاً أمام درس حروب الفرنجة التي كانت مركزيتها الأساسية في قلب الوطن الفلسطيني، وقد كان جوهرها القوة والإخافة والقتل، لقد بنى الفرنجة القلاع وسكنوها ليحموا أنفسهم من مواجهة أهل فلسطين، لكنهم ولوا، هم وقوتهم، وبقيت القلاع شواهد على القوة البائدة، وبقيت الدروب التي سلكوها هروباً شواهد على هزيمتهم.

أجل لم تعمّر القوة شيئاً ذا بال، وقوة الإسرائيلي شكلٌ يماثل قوة أسبارطة العمياء التي هزمتها القيم والآداب والفنون والمعارف، والكبرياء والوطنية البّاصرة.

حسن حميد 

Hasanhamid55@yahoo.com