مجلة البعث الأسبوعية

من رحم أوروبا….  الكيان الصهيوني احتلال فرضته القوى الاستعمارية الغربية

البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان

يعدّ الدور الأوروبي في تأسيس الحركة الصهيونية وإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين العربية أكبر بكثير مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية عبر التاريخ، ذلك أن بني “إسرائيل” انقرضوا في القرن السادس قبل الميلاد، كما أن تاريخ تشتت اليهود على يد الرومان في القرن الأول الميلادي جعلهم خليطاً عرقياً متنافراً، بعد أن فقدوا وحدتهم العنصرية، فأخذوا يتكلمون لغات ولهجات مختلفة هي لغة ولهجة البلد الذي استوطنوه.

وهكذا فإن الأوروبيين هم الذين أوجدوا الفكرة الصهيونية، ثم تلقفتها الجماعات اليهودية الاستعمارية في أوروبا، فأسست جمعيات ومنظمات يهودية، أسهمت في تحويلها من حيز الفكر إلى برامج وخطط عمل شكّلت الحقل الذي اقتطعت منه المنظمة الصهيونية العالمية أخشابها، ولعل أهم هذه الجمعيات والمنظمات اليهودية:

أحباء صهيون (Hbbat Zion)، (Lovers Zion)، وجمعية أبناء موسى السرية (بني موسى)، تأسست عام 1889، من قبل فريق العلمانيين في حركة أحباء صهيون، وجمعية البيلو، وتتشكل الكلمة من الأحرف الأولى لأربع كلمات لما يسمى “بالعبرية” هي “بيت يعقوب تعالوا لنرحل”.

كانت هذه هي أهم الجمعيات الرائدة في الشطر الشرقي من أوروبا، أما في شطرها الغربي، فقد تأخر تأسيس هذه الجمعيات قرابة عقد من الزمن. فقد تأسس في ألمانيا عام (1892)، “جمعية أحباء صهيون الألمانية” و”نادي صهيون القومي اليهودي”، الذي أسسه الصهيوني الألماني ” يودنهايمر”، وكان هذا الرجل قد أصدر كراساً بعنوان “أين نذهب باليهود الروس”، وكان جوابه” إلى فلسطين وجوارها في سورية”، كما أصدر “يودنهايمر” نداءً في أيلول عام (1891)، بعنوان “يا صهيونيي العالم اتحدوا”! وتضمن هذا النداء مشروعاً لاستعمار فلسطين وتأسيس شركات تطوير الأراضي، ومدّ الخطوط الحديدية وغير ذلك من مقومات بناء الدولة.

وبالإضافة إلى “يودنهايمر” يعدّ كل من “وولفسون” الذي صار فيما بعد رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، و”بيرنباوم” من المؤسسين الأوائل لهذا النادي حيث اتفق الثلاثة على الدعوة إلى مؤتمرٍ صهيوني عام لصياغة الأهداف النهائية للصهيونية السياسية بشكل واضح، وجمع اليهود حولها، فوافقت على الفور جمعية “إسرائيل الفتاة” الألمانية التي تأسست هي الأخرى في برلين عام (1893).

وفي مؤتمرهم العام الذي انعقد في برلين عام (1893)، أقر المؤتمرون مشاريع تتضمن إنشاء منظمة صهيونية موحدة، وصندوق مالي وتشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتنظيمه، وإحياء اللغة العربية الكنعانية القديمة التي أطلقوا عليها بـ”العبرية”. كما جددت الدعوة لعقد مؤتمر قومي عام يضم جميع التنظيمات الصهيونية العاملة في ألمانيا. وقد انعقد بالفعل هذا المؤتمر في مدينة “كولون” بألمانيا عام (1896)، وتبنى مشاريع وقرارات مؤتمر برلين، وأصدرها في كراس بعنوان:”قضايا كولون”.

وفي ألمانيا تأسست أيضاً في عام (1901) جمعية “عزرا” التي نشطت في فلسطين، في المجال الثقافي، وبنت العديد من المدارس هناك، كما أسست فيما بعد معهد الهندسة التطبيقية في حيفا عام (1912).

أما في بريطانيا، فقد تأسست في عام (1891)، شركة الاستيطان اليهودية “يكا” من قبل البارون “هيرش” اليهودي الفرنسي، وغايتها العمل على حل ضائقة يهود روسيا، عن طريق تهجريهم إلى الأرجنتين وتوطينهم هناك، ولكنها ما لبثت أن حولت نشاطها إلى فلسطين في عام (1900). بالإضافة على شركة “يكا” تأسست في بريطانيا أيضاً جمعية لإدارة شؤون الطائفة اليهودية دعيت باسم “لجنة المبعوثين”.

وفي فرنسا، أسس بعض وجهاء اليهود، وكان من بينهم “أدولف كراميه”، عضو مجلس النواب والوزير في الحكومة الفرنسية، جمعية الاليانس ” الاتحاد اليهودي العالمي”، التي عملت على تقديم المساعدة السياسية والثقافية لليهود، في أية دولة كانوا، انطلاقاً من الفكرة الداعية إلى وحدة اليهود في كل أنحاء العالم، وقد بدأت الاليانس نشاطها في الدفاع عن حقوق اليهود السياسية في أوروبا، ولكن بعد وفاة “كراميه” عام (1880)، انحسر نشاطها السياسي ليتركز على النشاط الثقافي، ولا سيما في إقامة المدارس بين يهود المشرق العربي والشمال الأفريقي وتركيا. وقد أسهمت الاليانس في دعم النشاط الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وعن الاليانس انفصل فرعها في انكلترا، وتأسست الجمعية الإنكليزية اليهودية في عام (1871).

كانت هذه هي أهم الجمعيات والمنظمات التي شكلت بذور الحركة الصهيونية التي تفتحت براعمها في مؤتمرها التأسيسي الأول الذي انعقد في مدينة “بال” بسويسرا ما بين 21 – 31 آب عام (1897)، على يد – سيء الذكر – “تيودور هيرتزل” الذي عمل على توظيف آراء وأفكار مؤسسي هذه الجمعيات ونشاطاتهم في خدمة مخططه ومشروعه الصهيوني العالمي.

إن المهمة الملقاة على كاهل الصهاينة اليهود، تتركز حول خدمة المصالح الاستعمارية البريطانية. وقد أبدى قادة الحركة الصهيونية استعداداً كبيراً للقيام بهذه المهمة، كما يظهر جلياً في العديد من كتاباتهم، فقد أوضح “تيودور هيرتزل” هذه الفكرة، وشرح دور “إسرائيل” كحاجز في فلسطين يفصل بين السكان العرب في آسيا والعرب في شمالي أفريقيا، في إطار تجزئة الوطن العربي، والعمل المتواصل على ديمومة هذه التجزئة بهدف منع أي عمل من شأنه أن يضر بالمصالح الاستعمارية الإمبريالية.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن الصهيونية كانت حتى منتصف القرن التاسع عشر مقتصرة على غير اليهود، وكان هؤلاء الذين ناصروا اليهود إنما كان دافعهم إلى ذلك أطماعهم الاستعمارية دون أن يكون هنالك أي تعاون وتنسيق مع اليهود. فالصهيونية نشأت في أوروبا وليس في فلسطين، إذ أن الدور الأوروبي في تأسيس الحركة الصهيونية كان أكبر بكثير مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية عبر التاريخ، إن الأوروبيين هم الذين أوجدوا الحركة الصهيونية، لذا فإن أوروبا لم تكن مجرد المهد الذي ولدت فيه الصهيونية، وإنما كانت الرحم الذي لولاه لما كان للخرافة الصهيونية أن تولد.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور عام 1917، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، التزمت بريطانيا بالعمل على تحقيق مشروع ما يسمى “الوطن القومي اليهودي”، داعمة النشاط الاستيطاني على نطاق واسع بعد أن أصبحت الوكالة اليهودية معترفاً بها من قبل سلطات الانتداب، فتوسعت عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكان الاستيطان يسير خطوة خطوة بطريقة عملية منظمة ومبرمجة للسيطرة على فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني. فحتى عام 1945، كانت منطقة النقب خالية من المستوطنات الصهيونية، ولكن عندما تأكد للصهاينة أن قضية فلسطين سوف تطرح على الأمم المتحدة، باشر هؤلاء على عجل بالتواطؤ مع سلطات الانتداب بإقامة بعض المستوطنات في المنطقة عام 1946، وخلال مدة قصيرة تمكنوا من إقامة إحدى عشرة مستوطنة، وتم إدخال مئة ألف مهاجر يهودي  صهيوني خلال العام نفسه مع تسهيل عملية انتقال الأملاك العربية لهؤلاء الصهاينة.

ومع رفض العرب لهذه الهجرة وللانتداب البريطاني معاً، واتخاذهم كل الوسائل الممكنة للدفاع عن كيان فلسطين الذي هو جزء لا يتجزأ من كيان البلاد العربية الأخرى، تيقن قادة الحركة الصهيونية وحلفاؤهم أن إقامة الوطن القومي المزعوم في فلسطين كلها هو أمر خطير، وربما عصي على التحقيق، ورأوا أن اقتطاع قسم من فلسطين مهما كانت مساحته هو الطريق الأفضل والأسلم لتحقيق الهدف، ولهذا أبلغ القادة الصهاينة الرئيس الأمريكي ترومان الذي كان متعاطفاً مع اليهود، أنهم على استعداد لقبول التقسيم، فاتخذت جميع الإجراءات التي تحقق مصالح اليهود الصهاينة وبريطانيا وأمريكا.

وبناءً على ذلك أحيلت مشكلة فلسطين على هيئة الأمم المتحدة، حيث اجتمعت الجمعية العامة في 28 نيسان عام 1947، لبحث الموضوع، وتقرر تأليف لجنة من مندوبي إحدى عشرة دولة من الدول الصغرى – وهي دول  محايدة – وقدمت اللجنة تقريرها مقترحة إنشاء دولتين مستقلتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، وهو ما عرف باسم “مشروع الأكثرية”، كما اقترحت مشروعاً آخر عرف باسم “مشروع الأقلية” الذي دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية تضم العرب واليهود معاً تنجز خلال ثلاث سنوات، أي قيام دولة ثنائية الجنسية.

وفي أثناء دراسة التقارير برز دور الولايات المتحدة الأمريكية كطرف رئيس عمل على دفع الأمور باتجاه تقسيم فلسطين، وعندما اجتمعت الجمعية العامة في 26 تشرين الثاني عام 1947 للنظر في مشروع التقسيم، بات من اللازم للحصول على مشروع الأغلبية – وهو مشروع يصب في مصلحة الصهاينة – أن تحصل على موافقة ثلثي أعضاء الجمعية آنذاك، وهكذا بادرت أمريكا ومعها حلفاؤها من دول أوروبا الغربية إلى تأجيل موعد التصويت لتتمكن من ممارسة الضغط على سائر أعضاء الجمعية لتمرير مشروع الأغلبية، وقد لاقت جهودها النجاح وحققت أهداف الصهاينة، وفي هذا الصدد قال وزير الدفاع الأمريكي آنذاك “جيمس فروستل”  في مذكراته تعليقاً على هذا الموضوع: “إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة”.

وفي يوم 29 تشرين الثاني عام 1947، تم التصويت على مشروع قرار التقسيم بعد مناقشات حادة، وذلك بأغلبية /33/ صوتاً بينها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، ومعارضة /13/ صوتاً بينها الدول العربية، وامتناع /10/ أصوات منها بريطانيا.
وكان أهم ما نص عليه قرار التقسيم الذي حمل رقم /181/ تاريخ 29/11/1947، وهو  تقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة، وبينما أعطت  الجمعية /56 / بالمئة من مساحة فلسطين “للدولة اليهودية”، أعطت /45/ بالمئة للدولة الفلسطينية، وبقيت القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية بمساحة تمثل /5/ بالمئة من مساحة فلسطين، كما قررت الجمعية إقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، وقد أضيفت مناطق جديدة يملكها العرب ويقطنون بها في “الدولة اليهودية” المزعومة، مع إدخال منطقة النقب التي تمثل نحو نصف مساحة فلسطين إلى هذه الدولة أيضاً، ولم تكن سيطرة اليهود فيها تتجاوز نصف بالمئة.

أما فيما يتعلق بالسكان فقد كان عدد اليهود في فلسطين في ذلك الوقت لا يتجاوز ثلث السكان، ولا تتجاوز مساحة ما يسيطرون عليه /6/ بالمئة من مساحة فلسطين، والملفت في قرار التقسيم أن المنطقة اليهودية كانت تضم /509 / آلاف عربي بقي ثلثهم في المنطقة اليهودية بعد قيام الكيان الصهيوني، وشرد الثلثان فيما بعد في مختلف أنحاء العالم، في حين شملت /490/ ألف يهودي فقط، أي أن عدد السكان العرب فيها أكثر من عدد السكان اليهود، ولهذا كان قرار تقسيم فلسطين قراراً جائراً بامتياز ويبتعد عن المنطق بكل المقاييس، إذ كيف تقوم دولة يهودية أكثرية سكانها من العرب، في حين لم يكن في المنطقة العربية سوى /10/ آلاف من اليهود؟! وهذا يؤكد أن القرار كان كيفياً ومنسجماً مع مطالب الحركة الصهيونية.

ومنذ إقرار التقسيم اعتمدت سياسة القادة الصهاينة على التوسع، وقد ساعدتهم ظروف التجزئة والضعف والتبعية التي كان يعيشها الوطن العربي، ولا سيما بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار عام 1948، حيث تمكنت العصابات الصهيونية المسلحة من توسيع الرقعة المخصصة لهم بالتقسيم، فاحتلوا مناطق خارجها وبعض المدن والقرى العربية، وحسنوا موقعهم، ووسعوا حدود منطقتهم حتى بلغت مساحة الأرض التي أقاموا عليها كيانهم نحو /75/ بالمئة من مساحة فلسطين، وذلك بعد عدوان 1956، وعدوان 1967.

إن قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن لمغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير، ولذلك فإن الوجود الاستعماري الصهيوني المستند إليه باطل أيضاً، وسينتهي مهما طال الزمن.