الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الدّهاء والعنف

عبد الكريم النّاعم

في زيارة لذلك الشيخ الذي أزوره، وجدت عنده ضيفاً في مثل عمره، سلّمت وجلستُ أنتظر كيف يمكن أن أبدأ الحديث معهما، فعرّفني بضيفه أنّه صديق منذ أيام الصبا، وهما متقاربان في الخارطة النفسيّة، إنْ صحّ التعبير، وعرّفه عليّ بما يليق بأدبه ولطفه، فابتسم لي الضيف ابتسامة ودودة، وقال الشيخ: “سنتابع ما كنّا فيه قبل وصولك، كان صديقي يقول إنّنا في المنطقة العربيّة منذ مئة وعشرين سنة نعيش جميعاً في حالة هي بين الدّهاء والعنف، في مواجهة العدو الخارجي، وعنى بذلك شعوب هذه الأمّة المقهورة”، والتفت إلى ضيفه قائلاً: “أرجو أن تتابع..”.

قال الضيف: “لقد ابتُلينا بالدّهاء الغربي الاحتلالي، وكلّ احتلال يحتاج إلى كلا الدّهاء والعنف، فهو يستعمل الدّهاء حين يجد أنّه موصل للهدف، فإذا كان ولا بدّ من العنف، فلن يتورّع أخلاقيّاً، لأنّ الاحتلال في جوهره عار من الأخلاق، وما زال هذا النّهج قائماً، وسيستمرّ ما دام قادراً على تنفيذ مشاريعه، ولن يوقفه إلاّ التصدّي، والتضحيات..”.

قاطعتُه: “اسمح لي بالمقاطعة، هذا عن الخارج فماذا عن الموجودين في الداخل، ولا يقلّ نهبهم عن نهب المحتلّ”؟!.

قال: “هؤلاء امتداد للمحتلّ مهما تبجّحوا بالوطنيّة، أو زَعْم الإنفاق، ولا يُقدمون عليه إلاّ للمباهاة، فإذا استطعنا إيقاف زحف المحتلّ الخارجي فلسوف تتراجع هذه الظواهر لأنّها في جوهرها من ذات الطبيعة النّهبويّة..”.

ابتسم الشيخ في وجه صديقه وقال: “هل نستطيع التعمّق في هذا الموضوع من النّاحية الفكريّة”؟.

قال الضيف: “لا بأس، فهو لا يخرج في نتيجته المبدئيّة عن الإطار الذي استدعى مثل هذه المناقشة، واسمح لي بالتوسّع قليلاً، فقد جاء في معاني “الدّهاء” إنّه “الخَتْل”.

قاطعه الشيخ: “وجاء في معناه أنّه العقل”.

قال الضيف: “أنت تعرف أنّ فقهاء اللغة قالوا إنّه ليس في العربيّة مترادفات بل هي درجات مختلفة بين المفردتين..”.

قاطعه الشيخ: “لكنّ الفرق كبير بين معنى “العقل” الذي قالوا عنه، “الدّهاء” فأيّة قرابة بين الدّهاء والعقل”؟!!.

قال الضيف: “الدّهاء يحتاج إلى ذكاء، ولا بدّ لمن يكون داهيّة من أن يكون ذا قدرة على الرؤية، والتخطيط، والتنفيذ، واختيار الأدوات..”.

قاطعه الشيخ: “هل تعتبر ذلك، ولاسيّما حين يكون شرّاً كله، هل تعتبره ذكاء وعقلاً”؟!!.

قال الضيف: “نعم هو ذكاء ولكنّه ذكاء إبليسيّ، ألم يكن إبليس ذكيّاً في دهائه، أولم يُقسم لآدم وحوّاء بأنّه لهما من الناصحين، فدهاهما ما دهاهما”؟.

قال الشيخ: فماذا عن “العقل”؟.

قال الضيف: “لا بدّ من التمييز بين العقل الذي أقسم به الخالق حين خلقه، بأنّه به يُعطي، وبه يُثيب ويُعاقب، فهذا هو العقل النوراني، الخيّر”.

قال الشيخ: “فماذا عن العقل الموجود في الدّهاة”؟.

قال الضيف بعد توقّف قليل، وكأنّه يتذكّر: “في اعتقادي أنّ علي (ع) سُئل عن ذلك، في مجال ذكر مَن أتعبَه في مناوأته له، فقال ما معناه إنّ الذي فيه شيء “شبيه بالعقل”، وليس عقلاً، إذن نحن أمام “عقل”، و”شبه عقل”، واعتقادي أنّه (ع) عنى أنّ العقل في هويّته لا يكون إلاّ خيّراً، ونورانيّاً، وربّما زاد الأمر وضوحاً قوله (ع): “لولا التّقى لكنتُ أدهى العرب”، إذن ليس في الدّهاء تقى، أمّا شبيه العقل فهو ظلمانيّ، شيطانيّ في جوهره، فالدّهاء مثلاً لا يخلو من تمويه، وكذب، وتضليل، وخَتْل، وهذا يعني أنّنا في مواجهتنا الخارجيّة والداخليّة أمام أناس ليس للوجدان والضمير حضور في أعماقهم، وهذا يحتاج لابتكار أساليب بحجم التحدّي..”.

aaalnaem@gmail.com