مجلة البعث الأسبوعية

الصين تدرك ذلك جيداً وتعلم أن الوقت يعمل لمصلحتها

البعث الأسبوعية- طلال ياسر الزعبي:

تمنّي الإدارة الأمريكية نفسها بأنها تستطيع تأسيس حلف عسكري جديد على حدود الصين، على غرار حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي أنيط به طبعاً إضعاف روسيا ومنعها من الصعود، وذلك كضمانة عسكرية واقتصادية لاستمرار الهيمنة الغربية الأطلسية على العالم، وبالتالي الإبقاء على النظام العالمي القائم الذي يؤمّن مصالح الدول الغربية ويسمح لها بالسيطرة على جميع مفاصل الاقتصاد العالمي خدمة لمصالح فئة قليلة من الأثرياء الذين يتحكمون بشرايين الاقتصاد والمال في العالم.

وفي هذا الإطار أسست واشنطن حلف “أوكوس” العسكري في آسيا والمحيط الهادئ لجعله أداة عسكرية لكبح جماح الصين في الشرق الآسيوي ومنعها من تأسيس منظومة اقتصادية جديدة في آسيا تكون موازية للمنظومات الغربية التي تسيطر على اقتصادات العالم كصندوق النقد الدولي ومجموعة الدول السبع، وما إلى ذلك من المنظومات الغربية الرامية في أساسها إلى إحكام هيمنة الغرب على جميع التوجّهات الاقتصادية في العالم بما يخدم بقاءها على رأس هرم الاقتصاد العالمي.

هذا الحلف هو اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، تساعد بموجبه كل من الولايات المتحدة وبريطانيا أستراليا في تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ.

ولعل جميع الادّعاءات التي سيقت لتبرير هذا الحلف، تجعل المراقب يدرك أن أهم ما جاء فيه هو تركيزه على تطوير التكنولوجيا النووية في بلد ليس عضواً أصلاً في النادي النووي وهو أستراليا، وضمّه إلى هذا النادي، وبالتالي صناعة عدوّ نووي مفترض على حدود الصين في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، يكون تحالفه مع الولايات المتحدة وبريطانيا أساساً لاستفزاز الصين وإضعافها على غرار ما يقوم به حلف شمال الأطلسي “ناتو” في أوروبا ضد روسيا، وذلك لأن تايوان تقع في المجال الحيوي للصين، وهو الأمر الذي عدّته بكين محاولة لصناعة “حرب باردة جديدة” ضدّها تكون مقدّمة لتفتيتها كما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق.

ويمكن للمراقب أن يستنتج مما يحدث الآن في العالم أن واشنطن بحكم بعدها الجغرافي تقريباً عن الصين لا تستطيع استخدام حاملات طائراتها في أيّ صراع محتمل معها، لأنها ستكون هدفاً سهلاً للصواريخ الصينية في حال اندلاع أي مواجهة عسكرية بينهما، ولذلك لابدّ من استخدام بلد مجاور للصين في نشر قواعد أمريكية على حدودها، فضلاً عن أن الغواصات النووية التي ستمتلكها أستراليا صورياً ستكون عملياً تحت تصرّف البحرية الأمريكية، وهذا يشبه كثيراً استخدام أوكرانيا في استفزاز روسيا وهي الأقرب إليها جغرافياً، وتعدّ مدخلاً طبيعياً للبحرية الأمريكية إلى البحر الأسود، فالتكتيك الأمريكي في المواجهة مع كل من روسيا والصين لا يختلف كثيراً إلا بقدر ما تتيحه الجغرافيا من اختلاف، أما أستراليا وأوكرانيا وحتى تايوان فهي مجرّد أدوات للاستفزاز وسينتهي دورها بانتهاء الحاجة إليها، حتى لو كانت أستراليا تنتمي إلى الأنغلوساكسون، لأن واشنطن لا تعتدّ أصلاً بمثل هذا الرابط، بل بما يخدم مصلحتها التي فضّلتها مؤخراً على علاقتها مع باريس من خلال القفز على اتفاقية الغواصات بينها وبين كانبيرا.

وقد تفاوتت المواقف من هذا الحلف على الصعيد الدولي حيث رأت فيه فرنسا عملاً يدفع إلى نزع بذور الثقة بينها وبين الحلفاء، الولايات المتحدة شريكتها في حلف “ناتو”، وأستراليا التي وقّعت معها اتفاقية في عام 2016 لبناء أسطول غواصات لها تعمل بالوقود التقليدي، واستبدلتها الأخيرة باتفاقية مع واشنطن لتزويدها بغواصات تعمل بالوقود النووي، وذلك في الوقت الذي رحّبت فيه الهند بهذه الاتفاقية بوصفها تؤدّي إلى نوع من التوازن في منطقة المحيط الهندي، حيث هناك نزاع حدودي تقليدي بينها وبين جارتها الصين في جبال الهيمالايا، ولا بأس في أن تستفيد من وجود هذا الحلف في صراعها مع الصين، أما روسيا فقد سارعت إلى التحذير من أن تزويد أستراليا بهذا النوع من الغواصات سيؤدّي إلى سباق تسلّح في المنطقة، ولكنّها ضمنياً وجدت فيه فرصة لتسويق غواصاتها النووية بين حلفائها في المنطقة ولاسيما باكستان العدو التقليدي للهند.

وأيّاً يكن من شأن هذا الحلف الجديد، فإن محاولة الإيهام بأنه قادر على البقاء في هذه المنطقة ربما تعدّ بحدّ ذاتها ضرباً من الخيال، فحلف شمال الأطلسي ربما كان تأسيسه منسجماً إلى حدّ ما مع طبيعة الدول المنضمة إليه، وهي في مجملها دول أوروبية تقع في رقعة جغرافية متصلة وتحتفظ بنوع من الانسجام بين الأعراق التي تسكنها، وتتقارب معدلات دخل الفرد إلى حد ما بين بلدانه، أما الوضع بالنسبة إلى هذا الحلف الجديد، فإنه يبدو مختلفاً إلى حدّ ما، حيث تختلف الأعراق التي تسكن هذه المنطقة كلياً عن نظيرتها الأوروبية، فضلاً عن كونها جميعاً تنتمي إلى القسم الجنوبي “الفقير” من الكرة الأرضية الذي يحتفظ بخاصية مختلفة تماماً عن القسم الشمالي “الغني” منها، وحتى لو تم تأسيسه بالاشتراك بين دول تنتمي أصلاً إلى “الأنغلوساكسون”، فإنه سيغدو من المستحيل عليه لاحقاً تأمين أعضاء جدد تنضم إليه من المنطقة ذاتها، وهم في المجمل ينتمون إلى أعراق وثقافات مختلفة عانت كثيراً من الاستعمار الغربي لها وخاصة البريطاني، وبالتالي فإن مجرّد الحديث عن نوع من الانسجام لهذا الحلف مع محيطه يبدو كأنه ضرب من البروباغندا التي تثير نمطاً من السخرية بشكل واضح، حيث لم تُبدِ الدول الآسيوية في تلك المنطقة رغبتها في الانضمام إلى مثل هذا الحلف، كما أنها ليست في وارد التخلي عن علاقاتها الاقتصادية القوية والمجدية مع الصين في مقابل وعود غربية لا يمكن أن تقدّم لها بديلاً فعلياً عن تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين التي استطاعت أن تنسج عبر تجارتها مع دول العالم مجموعة من العلاقات الاقتصادية القوية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تجعل هذه الدول تفكر كثيراً قبل أن تستبدل فرص التنمية التي تؤمّنها الصين بوعود غربية عاجزة عن تحقيق أيّ نمط من هذه التنمية.

ولكن على غرار ما فعلته الدول الغربية ضدّ موسكو من تغيير النظام في أوكرانيا وتحويله إلى نظام تابع لها، وبالتالي استخدامه في استفزاز روسيا تمهيداً لشيطنتها وفرض عقوبات اقتصادية عليها، تحاول واشنطن ولندن اللعب على وتر قضية تايوان التي تعدّها الصين شأناً داخلياً بينما تصرّ واشنطن ولندن على تدويلها وجعلها مدخلاً لاستفزاز الصين وإثارة عدم الاستقرار في محيطها في محاولة لخنقها وإضعافها، ومن أجل ذلك تسعى واشنطن إلى الاستفادة من الحكومة التايوانية الحالية إلى أبعد  الحدود لاستخدامها أداة لاستهداف الصين، حيث كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الولايات المتحدة تمارس الضغوط على السلطات التايوانية لشراء الأسلحة الأمريكية التي تراها واشنطن مناسبة، وتساعد تايبيه في صدّ أي عدوان صيني محتمل.

وقالت الصحيفة: إن الصراع في أوكرانيا أقنع واشنطن وتايبيه بأن الغزو الصيني المحتمل لتايوان في السنوات المقبلة يجب أن يُنظر إليه على أنه “خطر داهم”.

لذلك يبدو أن واشنطن مستمرّة في استثمار جميع بؤر النزاع في العالم لتغذية سعيها نحو إطالة أمد هيمنتها على العالم، وهي في هذا السياق لا تبالي بما يمكن أن تجرّه ممارساتها هذه من ضرر على الأمن والسلم الدوليين، لأنها تعتقد أنه لا يزال لديها متسع من الوقت للإمساك مجدّداً بمقاليد الأمور، ولكن واقع الأمور في العالم يشير بشكل واضح إلى أن هناك نظاماً عالمياً جديداً بدأ مخاض ولادته، وأن النظام العالمي الحالي بات في حكم الميّت سريرياً ولم تعُد تنقصه إلا مراسم الدفن، لذلك فإن جميع محاولات إحياء حلف جديد يكون مشابهاً لحلف شمال الأطلسي في عصره الذهبي ستبوء بالفشل، والصين تدرك ذلك جيّداً وتعلم أن الوقت يعمل لمصلحتها ولن تستبق الأمور مطلقاً.