مجلة البعث الأسبوعية

الكيان الصهيوني في ذكرى النكبة.. رؤية من الداخل

د. خلف المفتاح

بمناسبة حلول الذكرى الرابعة والسبعين للنكبة واغتصاب فلسطين، من المهم الإضاءة على واقع هذا الكيان الغاصب الذي يبدو واضحاً أنه يعاني من مشاكل وجودية تنبئ بسيره في طريق التفكك والتحلل والتشرذم وصولا لسقوط ونهاية الفكرة الصهيونية وزوال هذا الجيب الاستيطاني الذي سيكون مصيره مصير ما سبقه من كيانات استيطانية، كماهو حال من استوطنوا جنوب أفريقيا والجزائر، فالاحتفالات التي كان يشهدها الكيان الصهيوني فيما سمي ذكرى “الاستقلال”، ويطغى على خطابها نشوة الانتصار وقيام الحلم بدت في السنوات الأخيرة خطابات يغلفها الخوف على مستقبل “الدولة”، والمخاوف من زوالها، وهي التي قامت على أنقاض فلسطين، ففي استطلاع للرأي أجرته إحدى أهم الصحف الإسرائيلية، وهي “يديعوت احرونوت”، منذ مدة ليست بالبعيدة، اعتقد 22% ممن استطلعت آراؤهم أن “إسرائيل” تتدهور تدريجياً إلى أن تتدهور سريعاً حتى تزول، بينما قال 32% إنهم يشعرون بالخجل كونهم إسرائيليين وأبدى 52% الاستعداد لمغادرة “إسرائيل”، بينما كانت نسبة من يشعرون بالأمان التام والثقة لا تزيد على خمسة% فقط.

وإضافة لذلك، بدأ بعض الكتاب والباحثين والمفكرين وعلماء التاريخ يتحدثون عن أن “إسرائيل” لن تستمر أكثر من عشرين عاماً، والسؤال هنا: ما هي المؤشرات العملية والموضوعية التي يستند إليها القائلون بقرب نهاية ما يسمى “الدولة اليهودية”؟ ولعل الإجابة هنا أنها تستند إلى رؤية تحليلية وتفحص عميق للداخل الإسرائيلي جاء مترافقاً مع الفعل المقاوم والتشبث بالأرض وحق العودة التي شكلت ثوابت للشعب الفلسطيني، فهذه الخلاصات والرؤى تتكئ أيضاً إلى معلومات حقيقية من مصادر هي محل ثقة تشير إلى العناصر التي يتم البناء عليها وصولا لتلك الفرضية، أي فرضية الزوال مع الإشارة إلى أن الصحافة الإسرائيلية غالباً ما تشير وتضيء على عناصر من هذا القبيل بحكم هامش الحرية التي تعمل وفقه!! وهنا تجدر الإشارة إلى الأسس وقواعد الارتكاز التي نشأ عليها الجيب الاستيطاني، وهي مقولة إن فلسطين “أرض بلا شعب”، وها هي دول العالم والواقع يقر بوجود شعب فلسطيني متماسك ومقاوم ومنتم إلى أرض وثقافة وتاريخ، وإن القول بأن اليهود شعب متمسك بالعودة إلى “أرضه التاريخية” ليس شعباً بل جماعات يهودية تعيش بين شعوب العالم، بدليل أن أكثريتهم لم يهاجروا إلى فلسطين وأن الاغلبية الساحقة منهم بقيت خارج “إسرائيل”، وبدأ يطفو على سطح النقاش حديث عن صهيونتين: صهيونية أرض وصهيونية سكان، أما المسألة الأخرى فهي فشل ما سمي عملية الصهر، بمعنى أن يأتي اليهود من كل أرجاء العالم فتتم عملية صهر لهم عبر التعليم والثقافة والجيش، فينتج عنها إسرائيلي جديد هو عبراني جديدـ، هو آخر العبرانيين، وأول العبرانيين شبهاً، وهذا قطعاً لم يحدث بدليل التناقض القائم في المجتمع الإسرائيلي بين سفارديم وأشكناز وفلاشا ويهود روس ومغاربة لهم سماتهم الثقافية، وحتى الدينية، غير المتماثلة. ولعل ظاهرة تعدد الأحزاب والتيارات الدينية والعلمانية وغيرها مؤشر على ذلك.

والنقطة الأخرى أو العامل الآخر هو المساحة الفاصلة بين التيارات العلمانية التي تعتبر نفسها المؤسسة والتيار الديني الذي يزداد تطرفاً وانقساما إلى درجة أن بعض الحاخامات بدأوا يتحدثون عن أن ثمة يهوديتان وليس يهودية واحدة، مع وجود أكثر من مليون إسرائيلي ليس لهم علاقة باليهود، ولا باليهودية، بتعريف اليهودي حسب الأحكام والفقه اليهودي التلمودي، وهم من أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق على وجه التحديد. وثمة إشكالية حقيقية تعاني منها “إسرائيل” في مسألة تعريف من هو اليهودي إلى درجة إن بعض الحاخامات لا يسمحون بدفن مثل هؤلاء في مقابر يهودية، ولا يصلون عليهم, وثمة مشاكل أخرى كالتوسع الاستيطاني، فهي “دولة” مبنية على القتال والعنف وهذا يستدعي استمرار تدفق المهاجرين حتى تدور آلة الحرب والتوسع. ولكن ما يحصل إنه منذ عدة عقود لم يعد يأتي مهاجرون من دول أوروبية او أميركا، ما اضطر “إسرائيل” لاستقدام يهود فلاشا ومن جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وهؤلاء يعتبرون في العرف اليهودي مسيحيين، علماً أن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أشار منذ عدة سنوات إلى أن هناك تراجعاً واضحاً في عدد المهاجرين إلى “إسرائيل”، وأصبح لا يزيد على عشرات الآلاف، ما يشكل بالنسبة لفكرة قيام الكيان تهديداً وجودياً شأنه شأن ما تعرضت له الممالك الصليبية التي نشأت في المنطقة قبل حوالي ألف سنة، وانتهت وزالت بتوقف الهجرة من الغرب الفرنجي إليها، فالجيوب الاستيطانية تحتاج دائما إلى هجرة تشكل بالنسبة لها وقوداً وإكسير حياة واستمرار، وخاصة أنها تشكل خبرة جديدة ومادة قتالية، وهذا كان حال يهود الفلاشا الذين في حقيقة الأمر ليسوا يهودا بل أكثريتهم مسيحيون وبعضهم مسلمون شوهدوا يصلون في المطارات عند قدومهم أو جلبهم إلى “إسرائيل”، وكانوا بالنتيجة وقود حروب وعمال خدمات تم تجميعهم في أحياء ومستعمرات خاصة بهم. ونظراً لتفاقم مشكلة الهجرة والحاجة إلى الكفاءات، بدأت سلطات الاحتلال تقدم إغراءات للمهاجرين المطلوبين من قبيل دفع مائة ألف دولار للمهاجر وسكن في المدن وليس المستوطنات، والإعفاء من الخدمة بالجيش وامتيازات اجتماعية. ولكن، في بعض الأحيان، حل مشكلة ضعف الهجرة واستقدام مهاجرين يخلق مشكلة أهم، والدليل على ذلك إن المهاجرين السوفييت لم ينصهروا بأكثريتهم بالمجتمع الإسرائيلي، وبقوا متمسكين بثقافتهم ولغتهم الروسية، يرفضون تعلم العبرية ويصرون على بناء الكنائس الأرثوذكسية المسيحية الشرقية.

إضافة إلى ما تقدم، تشير الإحصائيات التي تقدمها وزارة الهجرة في “إسرائيل” إلى أنه غادر “إسرائيل” نهائياً منذ إنشائها أكثر من مليون مهاجر هجرة معاكسة أغلبهم أو نصفهم توجه واستقر في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنها ظاهرة في حالة ارتفاع وهم في غالبيتهم من النخب وأصحاب رأس المال، وأن بعض الأسر اليهودية الميسورة بدأت تشتري وتتملك مساكن وعقارات في أميركا وأوروبا وترتب أوضاع أبنائها في الخارج لعدم شعورها بالأمان لمستقبلهم، وهذه ظاهرة خطيرة في كيان ومجتمع قائم على فكرة الاستيطان.

ومع تنامي حالة المقاومة الشعبية والمجتمعية والمسلحة في الوقت الراهن، تتوقع الأوساط الإسرائيلية تنامي وازدياد وتيرة هذه الظاهرة التي يتحدث عنها الإعلام الإسرائيلي والمختصون في مراكز الأبحاث الإسرائيلية ويقرعون ناقوس الخطر من خطورتها على ما يسمى مستقبل “إسرائيل”، وقد شبهتها بعض الصحف الإسرائيلية وأطلقت عليها “الخروج الثاني”، وهذه العبارة لها خلفية توراتية في السردية التاريخية والدينية اليهودية على قاعدة إن الخروج الأول قد حدث من مصر إلى أرض الميعاد، أما الخروج الثاني فهو من “أرض الميعاد” إلى خارجها، وهنا نشير إلى أن مسألة النزوح من “إسرائيل” كانت مرفوضة في “إسرائيل”، ففي خطابهم الديني يسمون اليهودي القادم إلى أرض الميعاد باليهودي الصاعد، أما من يغادرها أو يتركها فهو اليهودي الهابط بزعم إن “إسرائيل” هي “مملكة السماء”.

وبعد عمليات المقاومة التي جرت خلال الأشهر والأسابيع الماضية، ولاسيما بعد معركة “سيف القدس”، تشير الاستبيانات التي تقوم بها مؤسسات استطلاع الرأي في “إسرائيل” إلى إن 52% من السكان لا يستبعدون الهجرة منها، وأن 24% يفقدون الثقة بمستقبلها، بينما فقط 22% يقولون إننا سنبقى، ولن نهاجر تحت كل الظروف. ويعلق أحد الباحثين العرب المهتمين بالشأن الإسرائيلي بأن النسبة الأخيرة تشمل أولئك الذين لن تستقبلهم دول أخرى لعدم كفاءتهم، أو بحكم المستوى العمري لهم، أو طبيعة البلدان التي قدموا منها أساساً، ولاسيما مهاجري آسيا وأفريقيا والدول العربية من اليهود.

ومنذ فترة ليست بالبعيدة، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تقريرا أشارت فيه إلى إن فقط 4% من سكان “إسرائيل” يشعرون بالأمان، وتساءلت الوكالة: “كيف لدولة تملك سلاحاً نووياً وجيشاً ومجتمعاً معسكراً و96% من سكانها لا يشعرون بالأمان؟

لاشك أن هذا الأمر يعود للفعل المقاوم وثبات الشعب العربي الفلسطيني وأهلنا في الجولان العربي السوري بأرضهم وحقوقهم المشروعة، ووجود سند وظهير لهم يتمثل بمحور المقاومة الذي تقوده سورية، وهي التي رفضت التخلي عن موقعها وموقفها العروبي والمقاوم، وتوفر لها قائد شجاع متمسك بثوابت الأمة والشعب العربي السوري، ومحافظاً على الإرث السياسي والنضالي للقائد الخالد حافظ الأسد الذي قال: “سنجعل من الجولان وسط سورية وليس جنوبها”.. إنه الرئيس المقاوم بشار حافظ الأسد.