دراساتصحيفة البعث

بعد غياب طويل.. اليسار الأمريكي ينشط من جديد

ريا خوري

تشهد الولايات المتحدة الأمريكية حراكاً نقابياً لافتاً بعد أن غاب لفترة طويلة من الزمن السياسي الأمريكي، دامت لأكثر من خمسين عاماً. مؤخراً بدأت الحركة العمالية الجديدة الصعود إلى واجهة الأحداث والأدوار السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وخاصة تلك الشركات التي تنتج التكنولوجيا بكافة مستوياتها. تلك الظاهرة طرحت العديد من التساؤلات، ليس فقط في حقل القضايا المعيشية والإنسانية والاجتماعية، وإنما أيضاً على المستوى السياسي العام في الولايات المتحدة لجهة احتكار الحزبين الكبيرين الديمقراطي والجمهوري للنتائج الانتخابية الرئاسية، وتقاسمهما النفوذ في مجلسي النواب والشيوخ، وتحالفاتهما مع قادة البنتاغون، ورؤوس القطاعات الصناعية والكارتيلات الكبرى والقطاعات المالية الضخمة.

ذلك التصاعد نشأ نتيجة لاستطلاعات الرأي التي بيّنت بوضوح تام تدني شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن التي وصلت إلى نحو عشرين بالمائة بين صفوف جيل الشباب، فبدلاً من التركيز على القضايا المهمّة والأساسية للداخل الأمريكي وأولوياته، وفي مقدمتها قضايا العاطلين عن العمل والتوظيف والقوة الشرائية والرعاية الاجتماعية، انخرطت القيادة الأمريكية والحكومة في قيادة الصراع الدائر في أوكرانيا، بالإضافة إلى موقف الرئيس بايدن غير المتوازن، والتوتر الكبير في رؤيته لقضايا الصراع الدولي، بحيث بات كلّ ذلك مترافقاً مع  تراجعه عن الشعارات التي أطلقها سابقاً.

لم يدرك بايدن أن الصراع مع روسيا ليس نزهة أو مروراً عابراً، فقد ظهرت تداعياته العالمية واستحقاقاته بشكل فوري، وخاصة لجهة رفع مستويات التضخم بشكل غير مسبوق منذ أكثر من أربعين عاماً، وتأثيرها المباشر على أسعار الوقود من ديزل وبنزين وغاز، وسلاسل الإمداد، وتأمين السلع الضرورية للمواطنين في الولايات المتحدة، وتحقيق الأمن الغذائي والحفاظ عليه وعلى مستواه.

لقد مرّت الولايات المتحدة بعدة أزمات قاسية وحادة، وخاصة أزمة الرهن العقاري وما تبعها من أزمة مالية عالمية في عام 2008، وما تلاها من ضربات قاسية تلقتها الطبقة الاجتماعية الوسطى. حينها بدأ يسود شعور عارم من عدم الثقة بالرأسمالية المالية ودوائرها، حيث أصبحت النخب المالية الأمريكية الضخمة والمعولمة مهتمة بعلاقاتها وتحالفاتها العابرة للحدود وخارج الولايات المتحدة على نطاق واسع أكثر من اهتمامها بالواقع المحلي الداخلي. كما أصبح وجودها الافتراضي في الشركات المالية والبورصات العالمية أكبر من حضورها الواقعي في دورة الإنتاج والصناعات التي تغطي السوق المحلية، وأتاحت أدوات التقدم الرقمي والثورة الرقمية ارتباطاً أقوى بكثير بين القوى المالية العالمية، على حساب الارتباط بالقوى المحلية المنتجة للوجود المادي.

في سياق متصل أظهرت حملتا المرشح الأمريكي بيرني ساندرز في عامي 2016 و2020 وجود تجاوب كبير لدى جيل الشباب الأمريكي داخل الحزب الديمقراطي مع الأفكار اليسارية الاشتراكية، ليس فقط لوجود حاجة وضرورة نظرية لخطاب سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف، بل لأن المؤسّسة الحزبية، سواء أكانت ديمقراطية أم جمهورية، لم تأخذ بعين الاعتبار تحولات الرأسمالية العولمية نفسها على محمل الجد، حيث تتسع الفوارق الطبقية والاجتماعية بشكل مخيف، مع تركيز غير مسبوق للثروات الهائلة بيد قلّة قليلة من رجال المال والأعمال والمستثمرين والشركات الضخمة، وهي الشركات ذاتها التي تشهد اليوم في داخلها عودة الحراك النقابي ودوره التنظيمي بين صفوف الموظفين والعمال، وما يعنيه من عودة لظهور يسار أمريكي جديد بأفكار جديدة بعد غياب دام حوالي خمسين عاماً.

معظم التصورات والتحليلات التي رصدت، وما زالت ترصد، ظاهرة اليسار الأمريكي في حركته النقابية الجديدة تشير إلى نموه المتسارع داخل الشرائح الاجتماعية الأفقر من الطبقة المتوسطة الأمريكية. في المقابل، تنمو أيضاً العديد من الحركات الشبابية الراديكالية المتطرفة، التي لها صلات وثيقة وواضحة مع العقائد الدينية التقليدية السائدة في المجتمع، وهذه الحالة برمتها تبدو تعبيراً عن أزمة الليبرالية الأمريكية وما تعانيه من مآزق.

إن معظم حركات اليسار الأمريكي الحالية بعيدة عن أن تكون حراكاً ثورياً، لأنها لا تتبنى أفكاراً وقيماً ومفاهيم راديكالية حول النظام الرأسمالي العام. وفي قلب هذه النسخة اليسارية، تبدو الحركة الاشتراكية الديمقراطية هي الأكثر قوة وحضوراً بعد أن وصل عدد أعضائها المنتسبين إليها والفاعلين داخلها إلى نحو خمسين ألف عضو، وما يميّز تلك الحركات هو التركيز على القضايا العملية والواقعية المتعلقة بتوزيع الثروة في البلاد على المواطنين كلّ حسب عمله وإنتاجه، وما يتصل بهذه القضية من مطالب وقوانين وتشريعات، تحديداً في المجال الضريبي، أو ما يُعرف بعملية تدخل الدولة الحمائي لمصلحة الفئات والشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً وتهميشاً في المجتمع، وإصلاح نظام الرعاية الصحية بشكل جذري، وغيرها الكثير من القضايا المهمّة والمؤثرة في إحداث عدالة طبقية ومجتمعية، تضمن توازن الفئات الاجتماعية بشكل عادل.

إن جملة ما يحصل في الولايات المتحدة من حراك، أكان سياسياً أم نقابياً، يدفعنا للتساؤل حول ما إذا كانت عودة اليسار الأمريكي إلى الواجهة ذات معنى، خاصة وأن إشارات الحرب الدائرة في أوكرانيا قد أفضت إلى تناقضات حادة في بنية النظام الدولي، وفي مقدمتها وجود توجهات جديدة ووجود إمكانية حدوث تضارب بين التوجهات السياسية للدول والتوجهات الرأسمالية، الأمر الذي من شأنه أن يقلّل من الثقة بالعولمة، وأن يكبح جماحها ويوقف تدفقها المتسارع، ويحدّ من أنشطتها المتعددة.