سلايد الجريدةصحيفة البعثكلمة البعث

تعقيب: السياسة اليوم والقول الفلسفي

د. عبد اللطيف عمران 

تكاد السياسة الدوليّة اليوم تدخل في ميدان: (صراع الحضارات) الذي نشر فيه عالم الاجتماع والفيلسوف ومستشار الأمن القومي الأمريكي صموئيل هنتنغتون كتابه عام 1993، هذه السياسة ليست مجرد صراع اقتصادي أو عسكري.. بل هي في أغلب تجلّياتها ناجمة عن تصوّرات مسبقة ترقى إلى مستوى الإيديولوجيا أو لفلسفة إن صحّت التسميّة. ولذلك كانت الردود على طرح صراع الحضارات تنطلق كذلك من أسس فلسفية على نحو ما نجده لدى عدة مفكرين ولاسيما فلاسفة ما بعد الحداثة ومنهم تزفيتان تودروف في كتابه: (الخوف من البرابرة: ماوراء صدام الحضارات) ويحذّر فيه من الخطر المحدق بالإنسان إذا زادت حدّة الصراعات القائمة على خلفية عقائدية، وفي كتابه أيضاً: (فتح أمريكا: مسألة الآخر) وهو بحث أخلاقي يستلهم علم العلامات والتأويل والاتصال. وتودروف تلميذ رولان بارت أكاديمياً وفلسفياً في (ما بعد الحداثة).
نعم، إنّ الصدام المعرفي والإيديولوجي (الفلسفي) رافق الصدام السياسيّ والعسكري والاقتصادي والثقافي على نحو ما نجد أيضاً في رد جاك دريدا رائد فلسفة ما بعد الحداثة على طروحات فرنسيس فوكوياما نظير هنتنغتون في التوجه وفي الوظيفة أيضاً في كتابه: (نهاية التاريخ: صدر عام 1992)، فنشر دريدا كتابه: (أطياف ماركس) والذي ينطوي على كثير من التشكيك والسخرية بطروحات وسياسات المحافظين الجدد التي لم يغب عنها المستند الفلسفي ومنها كتاب فوكوياما هذا الذي وصفه بقانون القيامة الحديث لتدعيم النفوذ الأمريكي النيوليبرالي الرامي إلى ضرورة الحضور الكلّي للنموذج الأمريكي وضرب البعد الإنساني والحضاري للثقافة الأوروبية، وفوكوياما كان يعمل في مؤسسة راند الأمريكية الاستعماريّة التدخليّة ورئيساً للقسم السوفييتي فيها.
ولعل هذا السجال هو من بعض ما دفع هنتنغتون عام 2004 أي في معمعان سطوة المحافظين الجدد، وبعد أحداث 11 أيلول، وغزو العراق لنشر كتابه: (من نحن: تحديات الهوية القومية الأمريكية).
إنّه لمشكلة أن ننظر إلى ما يحدث من صراعات على المستويات الدوليّة والإقليميّة من منطق عابر أو ردّة فعل مجردة من القراءة الدقيقة، وعن نظرية المعرفة والأنساق السوسيولوجية والفلسفية أيضاً، وهنا تأتي المشكلة التي يثيرها: (القول الفلسفي) الذي تطوّر ودخل في مختلف العلوم بديناميكيته المتجدّدة، إذ لم تبقَ المقولات الفلسفيّة مدرسيّة راسخة محدّدة, فصار صالحاً للاستثمار في عدة مجالات، ونحن في هذه المنطقة من العالم بحاجة ماسّة إلى استحضاره ومثاقفته واستثماره أمام ضعفنا في مواجهة وطأة ميديا الامبراطوريات الإعلامية المعادية لحقوقنا ومصالحنا بتأثيراتها السريعة وبمنعكساتها السلبيّة، إذ لا بد من تطوير مؤسّساتي لآليات التفكير والنقد والتحليل والتفكيك لتطوير خطابنا الثقافي والإعلامي والحزبي أيضاً.
فلا مناص من (التعبير عن المواقف السياسيّة من خلال مدارس فلسفية وخاصة عندما تكون هذه المدارس ليست فلسفيّة في جوهرها ولكن من خلال استخدام المفاهيم النظرية المُعبّر عنها فلسفياً في الأفق السياسي…. فإقحام هذه الأفكار والرموز في جدل سياسي غير مفيد، ويُضعف الموقف) على نحو ما تفضّل به أ.د. توفيق شومر في تعقيبه المنشور في العدد السابق على مقالنا المنشور في العدد الأسبق بعنوان: في (منظومة الإرهاب الدولية)، ذلك لأنّ المشكلة هي في طبيعة القول الفلسفي كما ورد أعلاه والذي صار يقع اليوم في ميدان غير مدرسي عصيّ على التصنيف لأسباب عديدة منها: إن الحدود الفاصلة بين أنساقه ولا سيما مابين الحداثة وما بعد الحداثة هي غير مستقرة حتى اليوم على نحو ما يرى هابرماس الفيلسوف وعالم الاجتماع أو السياسي إن شئت – وفيه يقول فيشر وزير خارجية ألمانيا السابق: إنه فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة – في كتابه: (القول الفلسفي للحداثة) أن: المشروع ما بعد الحداثي هو جزء من الحداثة التي لم تكتمل، فعلينا ألّا نظن، أو نُدفع إلى الظن إلى أنّ القول الفلسفي لم يعد حاضراً في عالم السياسة اليوم المتغير وإن تضاءلت قوة المصطلحات المدرسية في الخطاب الفلسفي المعاصر إذ تم تجييرها إلى مفاهيم استثمرها الخطاب السياسي والإعلامي في وقت صار فيه هذا الخطاب عندنا يصدر عن ردة الفعل، وليس عن إدراك واعٍ ومُسبق كما يتطلب (الوعي المطابق) كضرورة اليوم.
فاليوم، ابتعدت الحياة الأكاديمية عن الإملاء والتلقّي أو التلقين المباشر، وانخرطت بالحوار والسجال، وارتبطت بمراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار، وبالشركات العابرة التي لا يسجل بحث ماجستير أو دكتوراه في أكاديميات الغرب قبل أن تتبناه هذه الشركات التي عمل ولا يزال يعمل في خدمة مصالحها وأهدافها كبار استراتيجيي الغرب وفلاسفته على نحو ما نجد عند أستاذ الاستشراق الخطير المؤرخ والفيلسوف برنارد لويس أستاذ الفيلسوف المجرم برنار هنري ليفي عرّاب ما سميّ بالربيع العربي ومدمّر ليبيا.
علينا ألّا نتجاهل أن الاستشراق استراتيجية تستند إلى أسس فلسفية وظيفية لاتزال مستمرة، ونعاني منها نحن أبناء الحضارة العربية الإسلامية وكذلك أصدقاؤنا في الصين، وفي الحضارة الآرثوذكسية والحديث يطول مثاله السجال الحاد بالأمس بين بابا الفاتيكان وكيريل بطرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بشأن الحرب في أوكرانيا.
وعلى أية حال، واجب الثقافي، والإعلامي، والأكاديمي… أن ينتج اليوم تفكيراً وطنياً بخطاب لا ضير أن يكون وظيفياً يتم خلاله تجيير هذا النتاج لتعزيز القضايا الوطنية والعروبية بأنساقها وأدواتها وأساليبها، وبرجالاتها كرموز وطنية أيضاً، في عالم سيستند فيه خصومنا إلى استراتيجيات تستلهمها الامبراطوريات الإعلامية على نحو ما فعلت الإدارة الأمريكية قبيل غزو العراق باستحضار الثقافة الإحيائية الأصولية ونشرها عبر الميديا بين العسكرتارية ثم في المجتمع الأمريكي وعبر العالم.
نعم، إننا نواجه مخاطر كبيرة مستمرة لـ (منظومة الإرهاب الدولية) – أساس هذا الحوار والتعقيبين، والتي  تطرق إليها الرئيس بشار الأسد في زيارته طهران مؤخراً، وذلك في سياق رؤية وأحاديث سابقة عمرها ربع قرن لقائد استراتيجي . . . رؤية توضح أن هذه المنظومة تقتات على فتات الفلسفة الذرائعية الأمريكية التي تنعكس هيمنة وتفرداً وإرهاباً.