دراساتصحيفة البعث

هل باتت اليابان “مخلب قط” أمريكياً؟

هناء شروف

في حين اندلعت الصراعات في أماكن أخرى من العالم في العقود الماضية، وألقت بظلال طويلة على السلام والاستقرار الإقليميين، حافظت آسيا بشكل عام على السلام والاستقرار والتنمية الاقتصادية. ويرجع ذلك إلى اعتراف الدول الآسيوية بفوائد الاستقرار والتعاون الإقليميين، مما يعني أنها كانت متردّدة بشكل عام في الانخراط بشكل كبير في الألعاب الجيوسياسية للولايات المتحدة.

صحيح أن اليابان والهند اقتربتا أكثر من الولايات المتحدة رداً على استمالة واشنطن لهما بكلمات دعم لمطالبهما الإقليمية في نزاعاتهما مع الصين، لكن حتى هؤلاء لم يظهروا أي رغبة كبيرة في تحويل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أو المحيطين الهندي والهادئ، كما تحب الولايات المتحدة الإشارة إلى المنطقة، إلى ساحة المواجهة.

على الرغم من أن آسيا ليست مثل أوروبا كونها مختلفة سياسياً وثقافياً، فمن المتوقع على نطاق واسع أن الرئيس الأمريكي سيحاول استخدام الصراع في أوكرانيا للحصول على توافق أكبر مع قادة المنطقة، مع تكهنات بأنه يسعى للتوسّع وإعادة تشكيل الرباعية في الناتو الآسيوي.

وتعطينا دراسة التاريخ نظرة ثاقبة للحاضر، فقد قصفت الولايات المتحدة طوكيو خلال الحرب العالمية الثانية، وألقت قنابل ذرية على ناغازاكي وهيروشيما. منذ ذلك الحين اتبعت اليابان إلى حدّ ما إملاءات الولايات المتحدة، وخاصة على الجبهتين الدبلوماسية والاقتصادية. كما شهدت اليابان مثل ألمانيا التي هُزمت أيضاً في الحرب العالمية الثانية معجزة اقتصادية حقيقية، وبفضل تلك الجهود المضنية للشعب الياباني ازدهر الاقتصاد الياباني في فترة ما بعد الحرب. لسوء الحظ، لم يكن المستفيد الرئيسي من الازدهار الاقتصادي اليابان -أو ألمانيا- ولكن القوة المنتصرة والمحتلة: الولايات المتحدة.

أصبحت اليابان قوية من الناحية الاقتصادية في الثمانينيات وخلال هذه العملية أصبحت حازمة بعض الشيء. رداً على ذلك فرضت الولايات المتحدة عقوبات على جميع مجالات الحياة اليابانية، بما في ذلك السلع والصادرات الثقافية وإمدادات الطاقة. نتيجة لذلك، فقدت اليابان عقوداً من التنمية.

لقد تركت نهاية الحرب الباردة للعالم قوة عظمى واحدة فقط، هي الولايات المتحدة، ومنذ ذلك الحين كانت الولايات المتحدة تضايق اليابان وتجبرها على قبول كلّ إملاءاتها، والنتيجة فقدت اليابان زخمها الإنمائي.

في الواقع أصبحت الولايات المتحدة إمبراطورية من العقوبات والنزعة الأحادية، وقد أوجدت ظروفاً أصبح من الصعب على اليابان بموجبها العمل مع الصين أو روسيا أو مع دول أوروبا وأمريكا الجنوبية أو الهند، وإذا فعلت ذلك حتى على نطاق ضيّق فغالباً ما يكون وفقاً لرغبات الولايات المتحدة!.

على سبيل المثال، كان بإمكان اليابان تطوير لقاح كوفيد 19 الخاص بها لو سمحت لها الولايات المتحدة بذلك، لكن هذا كان من شأنه أن يحرم شركة “بيغ فارما” الأمريكية من جني الأموال من خلال بيع لقاحاتها إلى اليابان.

الآن شنّت الولايات المتحدة هجوماً قوياً على روسيا والصين، وكلاهما جارتان مهمتان لليابان، ما سيضرّ أيضاً بالاقتصاد الياباني. وهنا يقول العديد من الخبراء إن اليابان كان من الممكن أن تصبح أكثر ثراءً من خلال تعميق العلاقات الاقتصادية مع الصين، لكنها لم تستطع فعل ذلك بسبب السياسات الأمريكية. لكن القادة الغربيين لا يسمّون هذه “الإمبريالية”، وبدلاً من ذلك أطلقوا عليها اسماً وهمياً هو “إعادة التعيين الكبرى” أو “العولمة”. لكن ما يُسمّى بإعادة الضبط العالمية يسير في اتجاه واحد فقط من الولايات المتحدة إلى بقية العالم.

إلى جانب ذلك، هناك عدد لا يُحصى من القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، حيث يتمركز نحو 86 ألف جندي أمريكي هناك مزوّدين بغواصات وطائرات نووية، وبالمقارنة يتمركز نحو 53000 عسكري أمريكي في ألمانيا. وعلى الرغم من وجود عدد أقل من القوات الأمريكية في ألمانيا مقارنة باليابان، فإن السؤال هو: لماذا ينبغي نشر القوات الأمريكية في ألمانيا؟ هل ستسمح الولايات المتحدة لألمانيا أو اليابان بنشر قواتهما على الأراضي الأمريكية؟.

تعتمد اليابان على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، وخاصة بسبب الممولين العالميين ومكانة الدولار الأمريكي كعملة دولية. في الواقع من الصعب جداً على أي دولة أن تقيم علاقات ثنائية مع الولايات المتحدة على أساس المساواة والاحترام المتبادل. لكن على الرغم من أن الشعب الياباني يمكن أن يكون مكتفياً ذاتياً في العديد من المنتجات، بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية، فإن واشنطن تحثّهم على استيراد كميات كبيرة من هذه المنتجات من الولايات المتحدة، ويعيشون في ظل الخوف من أنهم إذا خرجوا عن الخط فإن الولايات المتحدة ستوقف على الفور إمداداتهم الغذائية والتحويلات المصرفية، وتعطّل تجارتهم الخارجية، تماماً كما تحاول الولايات المتحدة شيئاً مماثلاً مع روسيا.

على هذا النحو، لا يمكن أن يكون المستقبل أفضل إلا إذا تعاونت الاقتصادات الآسيوية والأوروبية لصدّ الولايات المتحدة، وبناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب تتمتّع فيه كل دولة ولغة وثقافة بوضع متساوٍ.