الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“موت موظف”.. وهاجس الخوف الإنساني

سلوى عباس

قبل عقدين من الزمن استضاف مسرح القباني بدمشق العرض المسرحي “موت موظف” (إعداد وإخراج لؤي شانا، وتمثيل نخبة من نجوم المسرح القومي في اللاذقية)، واليوم يستضيف مسرح الحمراء بدمشق العرض ذاته للمخرج شانا تأكيداً على التواصل الثقافي والمعرفي، والاطلاع على التجارب المسرحية المختلفة التوجهات لتحقيق التكامل المسرحي.

فكرة العمل مأخوذة عن قصة للكاتب الروسي، تشيخوف، الذي عُرف أدبه بعمقه الإنساني ومخاطبته للناس بقوله: “إن على الناس أن يفكروا بأنفسهم ويفهموا حياتهم بعمق أكبر ليشيدوا حياة أرحب وأفضل”.

من هذا الكلام، انطلقت فكرة العرض في تسليط الضوء على الخوف الإنساني القابع داخل كل إنسان من شخص كبير يخافونه ويستجدون رضاه، هذا الشخص الذي يرسم لنفسه هالة ووهماً من خلال فهمه لطبيعة هؤلاء الناس الذين يكبّلهم خوفهم ويجردهم من أي انتماء، فيمارس تسلّطه عليهم بكل قوة.

يؤكد تشيخوف في طرحه على مسؤولية هؤلاء المستكينين لحالة الخوف هذه، فطرح المخرج هذه الفكرة بأسلوب كاريكاتوري يصوّر حالة التهميش الإنساني من خلال موظف يدخل إلى السينما لحضور فيلم ويصادف الحظ أن يعطس على شخص مهمّ يجلس أمامه، ما أثار خوف الموظف من هذا الشخص وما قد يجرّه تصرفه هذا من عواقب وخيمة، ويبقى هذا الهاجس مرافقاً لذلك الموظف حتى يودي بحياته.

يعالج المخرج هذه الفكرة من خلال الأسلوب القائم على الارتجال في النص، وتقديم الجديد بالخروج عن المألوف وكسر التقليد المتّبع في الأسلوب المسرحي، حيث يتمّ الحوار في البداية من خلال ردود فعل الممثلين بمشاهدتهم لفيلم سينمائي وترجمة هذه الردود انطباعات تظهر على ملامحهم بوضوح أبلغ من الكلام، مما أعطى العمل قراءات مختلفة ومتباينة، فلكلّ مشاهد قراءته الخاصة به، وكل عمل لا يؤول هو عمل مباشر، والفن الحقيقي والمؤثر أبعد ما يكون عن المباشرة.

لقد عبّر الممثلون المشاركون في العرض على اختلاف أعمارهم وتجاربهم عن موهبة غنية من خلال أدائهم العفوي الذي جاء متكاملاً مع العوامل الفنية الأخرى، كالإضاءة التي ترافقت مع كل مشهد بما يخدم فكرة هذا المشهد، وكذلك الموسيقا التي كانت عاملاً فاعلاً في إضفاء حالة التناغم والتجانس بين فواصل العمل، وباقي العناصر الفنية التي ساهمت مجتمعة في إنجاح العرض.

ساعة من الفرجة المتعوية المدهشة عشناها مع طاقم هذا العرض الجميل والناجح، حيث استطاع العمل وعبر ساعة من الزمن أن يقدّم لنا عرضاً كوميدياً ممتعاً عبر لعبة حملت إسقاطات راهنة على واقعنا الآن، وجاءت أغنية الختام التي اختارها المخرج تلخيصاً لفكرة العرض بأن هناك غداً يحمل في طياته أحداثاً كثيرة ترسم خطوطاً لمستقبل مختلف تكون رؤاه مختلفة عن الماضي.

ولعلّ أهم ما في استضافة عرض “موت موظف”، والتي نتمنى أن تشمل الفرق المسرحية لباقي المحافظات، هو الاطلاع على تجارب فنانين يقتصر حضورهم وإبداعهم على نطاق محافظتهم وجمهورها، مما يجعلهم غائبين عن ذاكرة المتلقي في دمشق، والذي اقتصر دور المسرح بالنسبة له على عروض العاصمة، وهذه الاستضافات تؤكد استمرار شعلة المسرح متقدة دائماً لتضيء كل زاوية من زوايا سورية، وقد حقّق العرض الضيف حضوراً جماهيرياً متميزاً، مما يؤكد على دور المسرح في محاربة القبح والموت بالجمال والإصرار على الحياة، عبر وظيفته الإنسانية والحضارية والثقافية، فالعمل المسرحي لا يقتصر على جمهور النخبة فقط، لأن المسرح الواقعي المقدَّم بإطار محلّي شعبي تبقى دلالاته راسخة في ذهن المتفرّج عموماً، إذ تجسّد حقائق معيّنة على خشبة المسرح الذي ينحّي جانباً كل شيء يفرّق بين البشر، ويدعم كل ما هو مشترك بينهم، ويكشف عن القلب الذي يتقاسمونه، مما يجعله أفضل وسيط للسلام. وهو أيضاً -حسب الراحل سعد الله ونوس- المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الإنسان شرطه التاريخي والوجودي معاً.