ثقافةصحيفة البعث

“الأطلال” كان أصعب ألحاني لأم كلثوم.. هذا ما قاله السنباطي

عاش رياض السنباطي عزلة تامة في صومعته، وكان ذلك في عام 1966. وفي أعياد ثورة 23 تموز، خرج بلحنه الجديد الذي هزَ به المشاعر الوطنية والقومية، وارتفع به إلى مستوى لم يصل إليه أحد، وقد نظم كلماته الشاعر عبد الفتاح مصطفى، واللحن هو “يا حبنا الكبير والأول والأخير يا وطني”.. كان اللحن حباً للوطن من نوع جديد بعيداً عن الانفعال الحماسي والشعارات، وكانت أغنية لكل زمان ومكان، فيها تهدر العواطف بحبَ الوطن بكبرياء، وترتفع بالمستمع إلى آفاق من السمو والاعتزاز بالوطن والمصير، وعندما شدت بها أم كلثوم قامت الدنيا ولم تقعد، وكانت قصيدة “الأطلال” الخالدة التي فاجأ بها المستمع العربي، والتي دكت كل أغنية جاءت بعدها لجميع الملحنين، لتتوج السنباطي ملكاً وحيداً على عرش التلحين.

فكر السنباطي في تلحين “الأطلال” مذ صافحت النور على يدي الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي في منتصف الأربعينيات، وكان الشاعر يتغنى بها، ويرددها في الندوات الأدبية، ويأمل أن تجد طريقها ذات يوم إلى ملحن يفهم معانيها ويعطيها حقها كقصيدة غزلية متميزة، ولكنه رحل عن الحياة دون أن يتحقق حلمه ويسمعها ملحنة؛ وكان السنباطي يلحن فيها ثم يعود إليها إلى أن استقامت له كما يريد بعد عشرين عاماً على ولادتها، وكان خائفاً من ألا تستطيع أم كلثوم أن تغنيها كما يريد، وقد سئل عن أصعب لحن أرهقه، فقال: “أصعب ألحاني كان لحن الأطلال لأم كلثوم، لقد كنت أخاف منه قبل أن تشدو به أم كلثوم لصعوبته وعمقه، ولكنها اتصلت بي وقالت: “يا جدع أنت لك حاجات غريبة قوي.. أنت خايف من إيه، إنني أشعر باللحن وبعمقه”. وفعلاً نجح اللحن، وكنت أرتعد غارقاً في عرقي عندما استمعت إليه من الراديو.

كذلك تحدث عن هذا الخوف في لقاء تلفزيوني، فقال: كنت خائفاً من الأداء، لم أكن واثقاً، لأول مرة في حياتي من أداء أم كلثوم، ولما أخبرتها هاتفياً بمخاوفي قبل الحفلة، قالت: “ما تخافش يا جدع، وحاتشوف حاأعمل إيه في العمق اللي أنت عاوزه وخايف عليه”. وفعلاً كان أداؤها اللحن فوق تصوري، وقد اتصلت بها بعد الحفلة مهنئاً ومكثنا حتى شروق الشمس ونحن نتحدث عن اللحن المعجزة.

لقد طغت “الأطلال” على كل شيء، وكانت هتافات جمهور أم كلثوم تطالب بـ “الأطلال”، برغم وقار هذه الحفلات، وبرغم شخصية أم كلثوم الفذة، لم يعد هناك من شيء سواها، إذ تضاءلت أمامها كلَ الألحان التي أتت بعدها، بما فيها ألحان السنباطي نفسه، وكان يقول كلما سئل عن ذلك: إنه الحظ… وتوفيق من الله.

وعن الحظ الذي اتخذ منه فلسفته في الحياة، يقول: إن الحظ هو كل شيء ثم العمل، وباختصار: حفظ + اجتهاد + إيمان بالعمل + خلود.. في البداية اجتهدت ثم جاءني الحظ، وكان من حظي أنني وجدت الصوت الذي يؤدي ألحاني بصدق، وكان الحظ كبيراً في مصادفتي هذا الصوت، صوت أم كلثوم، ودون غرور، أقول: إن من حظ أم كلثوم أيضاَ التقاؤها بألحاني”.

وما حدث يوم غنت أم كلثوم قصيدة “سلوا قلبي” حدث عندما غنت “الأطلال” فالحرية مطلب جميع الناس، واللازمة الموسيقية الشامخة، جاءت لتزيد من شموخها، بتلك اللهجة التي تضمنها اللحن، والتي جعلت الجماهير تستعيد هذه الأبيات مرات عديدة، وسارت الأغنية بعد ذلك لتحفر أخدوداً عميقاَ في نفوس الجماهير من الصعب اقتلاعه، بسبب أنها نغم متماسك، يشمل القصيدة ككل في كل حرف من حروفها، ومهما يكن من أمر فـ “الأطلال” من الصعب تحديد مواطن الجمال فيها، لأن الجمال العميق يتدفق منها كالشلال الغزير، فالمقدمة الهادئة التي تمهد لتلك الدراما والغناء الهادئ واللوازم المعبرة النابضة بالحياة التي تسبق كل مقطع فيها، ناهيك عن الجمل الموسيقية التي تقطع بين أجزاء البيت الواحد وبين صدره وعجزه.. كل هذا أضاء على أجواء القصيدة وخلع عليها نوراً مبهراَ لم يزده إبهاراً سوى غناء أم كلثوم، كما لم تغن قبلاَ:

وضحكنا ضحك طفلين معاً وعدونا فسبقنا ظلنا

وإذا ما تجاوزنا كل هذا في هذه القصيدة الرائعة وانتهينا إلى القفل، الذي استخدم لأول مرة بهذه الطريقة في تاريخ الغناء العربي ليبهر حتى السنباطي نفسه، فالغناء ما زال مستمراً وكأنه لم ينته، وقد انبرى الإعلام وتحرك رجال الصحافة للبحث عن السنباطي المتواري في عزلته، ومنذ هجرته إلى القاهرة حاملاً معه آماله الكبار لم يكلف أحد من رجال الصحافة نفسه بلقائه، وانصرفوا عنه إلى رفع أسماء اعتادت التسكع على أبوابها، أو تجيد تكريس الإعلام لخدمتها. وبرغم كل ذلك تابع طريقه غير عابئ بهم إلى أن انتصر، وها هي الصحافة تبحث عنه بعد أغنية “الأطلال” لتسبغ عليه المجد والشهرة؛ وأضافت الإذاعة على لقب الموسيقار لقباً آخر هو لقب “العملاق”، فغدا اسمه عند تقديم أي عمل له “الموسيقار العملاق” وهو قابع في الظل كعادته. لقد كانت موسيقاه أكثر شهرة منه، على عكس سائر الملحنين الذين كانت تطغى شخصياتهم وجزئيات حياتهم على فنهم.

لم يكن السنباطي سباقاَ إلى تلحين الأطلال، فالموسيقار محمد فوزي سبقه إلى تلحين أبيات مختارة منها، أطلق عليها اسم “وداع”، وأعطى ما لحنه إلى المطربة نجاة علي؛ وقد غنتها عام 1948 فأجادت وأبدعت وأطربت، والذي يهم المستمع من وراء اللحنين لهذه القصيدة، أن كليهما تمكنا من التعبير عم جاش في نفسيهما موسيقياً، ورغم هذا يظلَ العملان “الأطلال” و”الوداع” للسنباطي ومحمد فوزي من الأعمال المتميزة لهذين الفنانين الكبيرين.

فيصل خرتش