الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تخوّف

عبد الكريم النّاعم

زاره أحد أصدقائه، وقليلاً ما يرى أحداً منهم، فالناس في هذا الزمن كلٌّ في شُغل، بعد قليل من الوقت دقّق النّظر في وجهه، فأحسّ بشيء من الارتباك الداخليّ، فأخفاه، ونظر في وجهه مرّة أخرى وقال له: “أرى في أعماقك ملامح قلق”؟.

أجاب: “متى لم يكن القلق رفيق كلّ عاقل”؟.

قال له: “هذا جواب عام..”.

قاطعه: “لقد جَهِد الإنسان، وبالتحديد الإنسان المعنيّ الذي يشمله السؤال،.. جهد منذ أقدم الأزمنة لتحقيق السلام الداخلي، في مواجهة القلق الذي تثيره أسئلة الحياة والكون، وتنوّعت الرؤى، والتجارب والآراء، بعضها حام حول الماء ولم يَرِد، وبعضها كان في طوفانه توليد الكثير من مراكمة قلق على قلق، وبعضها قارَب حتى لكأنه كان يرى ما لا يُرى رؤية العين والقلب، ومع هذا، وعبر مئات السنين، ومع وجود آلاف الكتب التي عنيتْ بذلك ما زالت نيران القلق الوجوديّ قائمة، حتى لكأنّ القلق جزء صميمي، أو شرط في الحياة لولوج تلك الآفاق،.. هذا جانب يسمّونه ميتافيزيقي..”.

قاطعه: “ولكنْ ليس كلّ الناس كذلك، فما يُقلق هنا ما يكاد يكون له وجود هناك، فالبعض ما أن يشبع حتى ينام بعمق يغبَط عليه..”.

قاطعه: “أنا لا أتحدّث عن هذا وأمثاله، أنا معنيّ بمن يتقاطع معي في الفهم، ولو على قلق، أكثر من الذين يشعرون بالاطمئنان عن جهل، وانسداد آفاق، ولا أريد أن أقول أكثر، أنت حين تلتقي بشاعر، أو فنّان فإنّك لا تحدّثه إلاّ فيما يعنيه، أو قريب من اهتمامه، قلتُ لك ذلك قلق ميتافيزيقي، وثمّة قلق مواجهة تفصيلات الحياة بجرائرها التي انطلقت عفاريتها منها، فكم هو مؤلم أن نرى ما رأينا، وكم سنحتاج من الأعمار لتنظيف ذاكرة الروح، لقد عشّش الخوف حتى في حجارة البيوت..”.

قاطعه: “ما يخيفك الآن بعد أن قطعنا هذه الأشواط”؟.

أجابه: “يا صديقي الخراب سهل، فما تخرّبه متفجّرة أو قذيفة، في ثوان قليلة، تصيب بناء ما، يحتاج عمارُه لسنوات، هذا على مستوى البناء المؤلّف من اسمنت وخفّان وحديد، فما بالك ببناء ما تدمّر في الأعماق كم سيحتاج؟!!.. أعتقد أنّه سيحتاج إلى أجيال وعبر عمل جليل عميق على مستوى التربية والتعليم والاقتصاد والفنون، لأنّ ما زرعه الدواعش وجماعة الإخوان سيحتاج إلى جهود بحجم الدمار المادّي والمعنوي..”.

قاطعه: “هل ترى أنّ هذا الخطر ما زال قائماً”؟.

أجابه: “أنا ليست لديّ أية معلومات حول نشاطات هؤلاء، ولكنني أعرف أنهم يتخّفون حين تشتدّ مواجهتهم، ويخنسون، ويتربّصون بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض من جديد، وقد يتستّرون وراء لافتات تساعد على تمويههم، أو يبدؤون من جديد في الأنفاق التي لم تعد خافية على أعين البُصراء، فهم كما عرفناهم من خلال أساليبهم، يذهبون للبيوت لتهيئة الأطفال واليافعين ليكونوا لهم، وقد يتلطّون وراء اسم هذه المؤسّسة أو تلك، وخطورتهم لا تتوقّف عند هذا بل إنّهم حين تمكّنوا من إيقاد حريق 2011 جرّوا خلفهم مَن كنّا نظنّ أنّ لديهم من الفكري التقدمي الليبرالي التنويري ما يُشكّل حاجزاً لا يُخترق، فإذا به ينهار بصورة دراماتيكية ما يكاد يصدّقها العقل لولا وقوعها، وتحوّلوا من طليعيّين، ومن رياديّين إلى أبواق هزيلة ينفخ فيها قادة الإخوان، ورافعو شعارات باسم الدين لغايات سياسية، تفتيتيّة.. ينفخون فيها فتُصدر صوتاً نحاسيّاً، ممجوجاً، لا علاقة له بهويتها القديمة التي عُرفت عنها، ورضوا أن يكونوا أداة صغيرة رغم انفضاح ارتباط تلك القوى المتطرّفة وانكشافها أنّها كانت أداة في يد الرجعيّة الظلامية، وعميلاً مهمّاً لأجهزة الاستخبارات الغربيّة المتصهينة، هؤلاء يخيفونني…”.

aaalnaem@gmail.com