ثقافةصحيفة البعث

لا يحبّ القيد في الفنّ.. هشام المليح: الحديث عن الانسجام بين الفنّان واللوحة ممل

بداية حوارنا معه من حيث أوشك على الانتهاء، أي من المنحوتة التي اشتغلها لمصلحة وزارة التّربية، يقول هشام المليح: طلب مني وزير التّربية الدّكتور دارم طبّاع إنجاز منحوتة لضابط روسي استشهد في تدمر بعد أن أعطى الجيش إحداثيات المكان الذي يوجد فيه إرهابيو “داعش” وضحّى بنفسه كرمى رفاقه، ذهبت إلى المكان بطلب من الوزير لأطّلع عليه وأعرف أين ستوضع اللوحة وهي جاهزة تقريباً لكن تحتاج للمسة أخيرة.. اللوحة حفر نافر رولييف بطول مترين وعرض 125، آلية العمل هنا تبدأ بالصّلصال ثمّ نصنع قالب جبصين ومن ثمّ مادة الرّيزين.

ليست هذه المرّة الأولى التي يشتغل فيها المليح منحوتات ضخمة، إذ اشتغل سابقاً الوردة الدّمشقية الموجودة في ساحة الأمويين، وله في منطقة القصّاع منحوتة أيضاَ، وفي العام الماضي أنجز لوحةً كبيرةً للشّهيد عصام زهر الدّين وضعت عند ضريحه في مدينة السّويداء بطول 14 متراً وارتفاع 4 أمتار، يحدّثنا المليح عن أهمية وجود أعماله في السّاحات العامّة فيقول: هذه الأعمال تشعرني بالسّعادة والفخر وتعطيني شهرةً وتفتح أبواباً جديدة للعمل، إنّها بمنزلة دعاية لنا، فمن خلال عملي الموجود تحت جسر الرّئيس سافرت إلى كمبوديا وبقيت هناك خمساً وعشرين يوماً وكنت الوحيد المشارك من سورية.. عندما أركب سيّارة أجرة وتمرّ بجوار هذه الأعمال وأقول للسّائق هذا عملي يفرح ويتعرّف عليّ.. شيء جميل لكن بالطّبع هذا لا يعطينا شعوراً مطلقاً بالرّضى..

ويروي لنا المليح موقفاً من مواقف كثيرة يتعرّض لها أثناء إنجازه هذه الأعمال: كنت أشتغل منحوتة امرأة تحمل قمحاً وكتاباً في القصّاع بشارع يمرّ فيه الكثير من الفنانين ولم يتوقّف أحدهم ليستفسر عنها، بل كان هناك امتعاض من الغبار وكانوا يسألون عن المبلغ الذي سأحصل عليه والبعض قال لو نقطع هذه الشّجرة ونتدفأ عليها أفضل!، ومرّة رأيت نحّاتاً يقف بعيداً ويتلصص عليّ فذهبت إليه وتفاجأ بوقوفي إلى جانبه وطلبت منه الاقتراب وإعطائي رأيه! مقابل ذلك وفي أحد الأيام اقترب منّي عامل نظافة وناقشني بالعمل وقال إنّه يهتمّ بالفنّ لكن الظّروف لا تسمح له بالاهتمام أكثر وصار كلّ يوم يأتي إليّ ويتحدّث معي.

للمليح أسلوب عمل خاصّ يحدّثنا عنه: هناك أعمال أشتغلها من دون قصد أي باللاوعي اشتغل شيئاً يشبهني، أشتغل على شيء له علاقة بالتّوازن الفيزيائي القلق لأنّه يريحني، فأنا أحبّ الكتلة القلقة في الفراغ والشّكل الطّائر في الفراغ ولا أحبّ شكل المكعّب الثّابت، ربّما لأنّ شخصيتي قلقة غير مستقرة ولا يوجد شيء يعطيني الاستقرار، وهكذا أعمال تتطلّب جهداً وتعباً لكن تريحني، مضيفاً: أنا أذهب إلى المادي أكثر من المعنوي، وأشعر أنّي شخص مادّي أكثر مني روحاني.. في معرضي الأخير اشتغلت على موضوع التّوازن القلق والحركة الميكانيكية واشتغلت شيئاً قريباً من المسننات والدّوران والإيقاع وأشياء غير ثابتة كما ذكرت تشبهني واشتغلها بصدق لأنّي أحبّ عملي وأسعى إلى الاستفادة المادية منه، إضافةً إلى ذلك اشتغلت البورتريهات بالمركز التّربوي وأحببت أن أنجز مشروعاً عن الشّخصيات الأدبية والفنية، لكنّي سأكمله على حسابي الشّخصي، مبيناً: لديّ أعمال كثيرة أنجزتها بالرّخام الإيطالي الذي أفضّل العمل به، لكنّه اليوم غير متوافر وسعره مرتفع، لدّي بعض القطع القديمة، ولديّ أعمال خشب صنوبر وصلصال وخشب ونحاس وخشب زيتون، خشب الزّيتون جميل لكنّه يفاجئنا بأشياء تربكنا بالعمل مثل الفراغات، ويبقى الخشب متوافراً أكثر من المواد الأخرى ونشتريه حتّى لو كان سعره مرتفعاً.

معارض جماعية كثيرة شارك فيها هشام المليح، لكنّه تأخّر بمعرضه الفردي، يقول: في المعرض الجماعي تشاهد أعمالنا لكن ليس بالشّكل الصّحيح، ويكون الاسم معروف لدى النّاس تبعاً للدّعاية التي يقدّمها الفنّان لكن في المعرض الفردي يشتغل الفنان أكثر.. أمّا بالنّسبة للإقلال بالمعارض الفردية فكان لديّ أعمال كثيرة أستطيع من خلالها أن أقيم معارض عدّة، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ أي شخص ـ اليوم ـ صار بإمكانه أن يقيم معرضاً فردياً مهما كان عمله أو عملها، فالطّباخة بين ليلة وضحاها تصبح فنانةً ومبدعةً وتنهال التّعليقات العظيمة على صفحتها على الـ”فيسبوك”، وهذه إن ذهبنا إلى بيتها لن نجد كتاباً في الفنّ التّشكيلي وإن سألناها عن اسم فنان ربّما ستقول إنّه طباخ أو طبيب، لكنّها تصبح معروفةً أكثر من فنان يعمل منذ سنوات طويلة، وللأسف نجد بعض الفنّانين “الكبار” يرحبّون بها ويمدحونها ويعرضون عليها إقامة المعارض، هؤلاء الأشخاص في الماضي كنّا نحترمهم أمّا بعد ما رأينا منهم تبخّر هذا الاحترام، مضيفاً: هناك فنانون يقيمون معرضاً كلّ عام، فما الجديد الذي يقدمّوه؟ لماذا يكررون اللوحات ذاتها في كلّ معرض جماعي؟. هناك استهزاء بالأشخاص المهتمين حقاً، وذلك فقط لأجل أن يكتبوا في الـ”سي في” أنّهم شاركوا بهذه المعارض، للأسف هناك 80 % هكذا في مجتمع الفنّ والبقية القلية تحافظ على كرامتها.. في معرض الخريف شاركت بعمل اسمه “الجحش” ووضعت في رقبته جرساً، ذهبت في يوم الافتتاح لأتفاجأ بأنّ الجرس ليس في مكانه، وعرفت لاحقاً من قام بهذا الفعل المشين وللأسف كان شخصاً يقابلني دائماً بابتسامةٍ عريضة.. إذا كان هذا هو الفن فبئس الفنّ..

لا يحسب المليح على أي مدرسة، بل يعمل بأسلوبه الحرّ الخاصّ، يقول: لا ألتزم بمدرسةٍ ما ومن الممكن أن أشتغل بأساليب عدّة والنّاس تعرفني من خلالها، وهذا يعود إلى شخصية كلّ فنان، هناك فنّان طبيعته ملتزمة ونمطية وهناك فنّان لا ينتمي إلى أي مدرسة ولا يستطيع التّقيد بأي شيء.. أوّل ما بدأت كنت أشعر أنّ الحديث عن الانتماء لمدرسة معينة عبء كبير جداً عليّ، لست محسوباً على أحد، بل محسوب فقط على اللحظة الآنية التي أنا فيها.. علينا أن نتحدث إحساسنا باللحظة نفسها من دون حصر الذّات بخطّ ما فالعفوية مطلوبة.. للأسف هناك متصنعون يعدّون أنفسهم “نخبةً” ويفرضون على الآخرين عناوين لمسابقات ما ويفرضون العمل تحت هذا العنوان، كم هو أمر سخيف أن يعمل الفنان تحت عنوان محدد؟، متسائلاً: أين هي النّخبة التي أثّرت وتأثّرت.. لقد صار الحديث عن التّفاعل والانسجام بين الفنّان واللوحة والرّوحانيات التي تربط بينهما حديثاً مملاً، لقد مللت من النّفاق والمظاهر الكاذبة وتمثيليات الفنّ.

ولطالما كان التّساؤل دائماً حول ضرورة أن يفهم النّاس اللوحة أم لا؟ يبين المليح: ندخل إلى معارض كثيرة ونلتقط بعض الصّور وإن سألنا أحدهم ماذا رأيت لا يعرف، أنا أشتغل لأنّي أستمتع وأحبّ عملي وأستفيد منه مادياً وفتحت سوقاً لي ولا أشتغل لأحد ولا يهمّني أن يفهمني أحد، ولا أحبّ أن أوصل فكرةً بل أجسّد فكرة لأنّ موضوع توصيل فكرة أو رسالة كذبة كبيرة، أيعقل أن أشتغل تمثالاً مدّة ثمانية أشهر لأوصل فكرةً فقط وبإمكاني التّعبير عبارة بسطرين؟

كلام يقودنا إلى السّؤال عمّا إذا كان بيع العمل الفنّي إلى من لا يقدّره أمر محزن أم لا، يجيب المليح: هناك أعمال كثيرة اشتغلتها لأشخاص لا يحبّون الفنّ وأعطوني ثمنها والجميل في الأمر أن لهم مكانة اجتماعية وبالتّالي تصبح هذه الأعمال مشاهدة، بالمجمل أنا أبيع أعمالي ولا يهمّني ما بعد ذلك، أحياناً أحزن عندما أشعر أنّ العمل كان يستحق مبلغاً مالياً أكبر، وهناك أعمال تُطلب لكنّي أتريّث ببيعها ولا سيّما إن كنت مرتاحاً مادياً.

وعلى خلاف الكثيرين ممّن يقولون إنّ الفنّ والثّقافة لا تطعم الخبز، يقول المليح: أعيش من الفنّ واشتريت منزلين من عملي فيه، صحيح أنّ البعض يقولون إنّهم لا يعيشون من الفنّ، لكنّ المسألة اجتهاد ويجب على الفنّان أن يكون على معرفة بتسويق الذّات والعمل.

درس هشام المليح الفنّ في مركز أدهم إسماعيل ووليد عزّت، ولم ينجح في امتحان القبول بكلية الفنون الجميلة، يقول: لم يتمّ قبولي على الرّغم من أنّ عميد الكلية يعرف أنّي سأتقدّم للامتحان ويعرف عملي جيداً، ونحن في قاعة الامتحان دخل ومدح بعملي، حينها شعرت أنّه لابدّ من الواسطات.. وها هو ومنذ عشر سنوات يدرّس في مركز ممتاز البحرة، يحدّثنا عن هذه التّجربة: يجب المحافظة على فطرية الطّفل وعفويته التي يسعى الكثير من الفنّانين العودة إليها، لذا أطلب منهم أن يشتغلوا ما يريدون ولا أفرض عليهم شيئاً إلّا إذا شعرت أنّ هناك من يرغب بأن أقترح عليه، يشتغلون بالصّلصال لأنّ المكان صغير والأدوات غير موجودة للتّعامل مع مواد أخرى كما أنّ بعضها قد يكون خطراً عليه كالخشب مثلاً، مبيّناً: لقد تأثّرت بهم بحيث جعلوني أن أكون فطرياً أكثر على الرّغم من أنّي قبل تجربتي هذه لم أكن أحبّ أعمال الأطفال، واليوم هناك أعمال لأطفال إن عرضناها على الـ”فيسبوك” سيقال إنّها لفنانين عالميين، في الوقت الذي بعض الأهالي لا يعرفون إمكانيات أبنائهم ومنهم من يعدّ ذهابه إلى المركز راحةً لهم لساعات عدّة، لكن للأسف لا نستطيع الحفاظ على هذه الأعمال لأنّنا نعيد عجنها ويشتغل عليها الأطفال من جديد وذلك بسبب نقص الصّلصال، هناك أهل يوثّقون أعمال أطفالهم ونحن نصّور بعضها، لكن هذا لا يكفي.

نجوى صليبه