مجلة البعث الأسبوعية

“المنطقة الأمنة”.. محاولة ابتزاز جديدة فاشلة

بسام هاشم

سرعان ما تكشف أن أردوغان كان يجس النبض للارتماء في معمعة ابتزاز جديدة، حتى وإن أوصله ذلك إلى حدود المغامرة بموقعه كطرف “ضامن” في الأزمة السورية. فجأة عاد المتزعم التركي إلى كراساته القديمة – كراسات المفلسين عادة – ليعيد إحياء الحل “المعجزة” الذي لطالما داعب مخيلته، ولطالما كان يأمل، وعلى فترات متباينة، أن يمكّنه من الخروج من ورطاته المتفاقمة، ولربما “يصحح” أو يعوض بعض أخطائه القاتلة.. لقد أثار طاغية إسطنبول مرة أخرى احتمال شن عملية عسكرية في سورية، في محاولة قديمة – جديدة لإنشاء ما يسميه “منطقة آمنة”، على طول الحدود المشتركة، وهي خطة كان اضطر مراراً لوضعها على الرف لاعتبارات شتى، ولكنها اليوم تعود إلى الطاولة وسط ظروف غير مسبوقة، فقد تراءى له أن العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا تعزز أوراقه، وأن روسيا ستكون غير مستعدة لإثارة غضبه بعد أن لوح باستخدام الفيتو ضد انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو كورقة مساومة. ووفقاً لحساباته، يمكن لواشنطن بالمقابل أن تقبل بخطوة تركية في سورية على أمل تمهيد الطريق أمام توسع تاريخي للحلف، كما يمكن أن تتماشى مثل هذه العملية مع خطط أمريكية مفترضة لفتح جبهة ثانية ضد روسيا في سورية.. أما في الداخل التركي، وفي ظل الضغوط الاقتصادية والأمنية المتزايدة، فقد ربط أردوغان بين خطة الغزو وهدف إعادة اللاجئين، بما يصرف أنظار الجمهور التركي عن المشاكل الاقتصادية المتفاقمة، وبما يمكن من حشد الدعم الشعبي لـ “عملية عسكرية” خامسة ستنتهي إلى إجبار جزء كبير من اللاجئين “غير المرغوبين” على العودة القسرية.. خاصة في وقت يعاني الاقتصاد التركي من حالة ركود مع معدل تضخم بلغت الـ 70%.

وفي الواقع، فإن العودة للحديث عن المنطقة الآمنة تخدم أكثر ما تخدم الأهداف السياسية الشخصية للرئيس التركي، ووضع تركيا نفسها خلال مرحلة انتقالية بين نظامين دوليين يتاح لها فيها اقتطاع أراض جديدة من جيرانها، أو بالأحرى إعادة توزيع التركة العثمانية لمرة ثالثة ورابعة انطلاقا من أن تركيا الإسلامية قادرة على المناورة مع الجميع من خلال موقعها الجغرافي. وما جهود أردوغان لاستكمال خنق أي تطلعات قومية عربية في شمال سورية، ومنطقة كيليكيا عموماً، وتشكيل حزام ديموغرافي على الطريقة المعروفة تاريخياً، والتي تكاد تكون “ماركة مسجلة” عثمانية – تماماً كما هي حملات الإبادة الجماعية – إلا محاولة لقطع الطريق اليوم – في سورية المُتناهشَة والممزقة – على أي إمكانية لتبلور حراك وطني سوري موحد ضد الوجود الأجنبي والانفصالي، عبر إنشاء مستوطنات “قاعدية” و”داعشية”، تابعة وعميلة، ومرتزقة تعمل في إطار ما يسمى “الجيش الحر”، ومبرمجة لخدمة عمليات التتريك الزاحفة، لغوياً وثقافياً، والتي تنتهجها مؤسسة “العدالة والتنمية” كحزب يعكس الأطماع الإقليمية للأوليغارشيا التركية الحاكمة، تمهيداً للإلحاق الفعلي لمساحات واسعة من الأراضي السورية قبل الإعلان عن ضمها رسمياً.   

قرع أردوغان طبول الحرب باتجاه شمال سورية مستغلا انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية، وحاول أن يرمي في وجه الجميع ما يشكل برميل بارود جديد يسمح له هندسة أمن الشرق الأوسط وتشكيل مستقبل النظام الإقليمي وفق إملاءاته، وعلى وقع ماكينة دعائية تحاول تصوير جميع أشكال الصراعات والمناوشات والتوترات التي افتعلها حزب العدالة والتنمية على أنها فتح جديد في السياسة وإنجاز عظيم للدبلوماسية. ومع ذلك، فقد استنزفت أنقرة الكثير من مواردها السياسية والعسكرية في سورية مدفوعة بجنون عظمة أردوغان وبسياسة خارجية وداخلية متهورة ومتقلبة، خاسرة وفاشلة. ولم يكن شعار التهديد الوجودي ولا حماية اللاجئين ولا دعاوى “الديموقراطية” في بداية الانخراط بالحرب على سورية سوى وسيلة تخفي مشروع تدمير سورية وتشريد ملايين السوريين، ومن ثم تشريد سوريين آخرين يقيمون في تركيا، لإسكانهم في “منطقة آمنة” مزعومة هي في حقيقتها فتيل صراع أخطر وأشد ضراوة ودموية.

لم تحكم أردوغان إلا غريزته في الاستمرار والبقاء السياسي، فالاقتصاد في أزمة، والهستيريا المعادية للاجئين والمهاجرين في تصاعد، فيما تلهب عودة الجنود الأتراك مكفنين من شمال العراق مشاعر التعصب القومي، وتبث أجهزة الدعاية الأردوغانية صور الأمهات التركيات اللواتي يذرفن الدموع وسط تصاعد التطرف الشوفيني.. والمزيد من الدمار والموت داخل وخارج تركيا.