مجلة البعث الأسبوعية

عروبة سورية خط دفاع جغرافي – سياسي في وجه الأناضول

 

“البعث الأسبوعية” د. إبراهيم علوش

لم يكن اسمها الأناضول دوماً. فهو تعبير إغريقي يعني “الشرق”، ومنه اسم “أناتول” بالفرنسية والروسية. أرض الشرق هو وصفٌ أطلقه الإغريق على شبه الهضبة التي كانت تعرف قبلها باسم “أرض الحثيين”. الحثيون بادوا. لكنهم بقوا على مدى ألفي عام تقريباً مصدر خطرٍ داهمٍ على بلاد الشام والعراق، ومن ثم مصر. وهم الحضارة الأولى المعروفة في شبه الهضبة، وسطها وغربها تحديداً، ولغتهم لم يبقَ لها أثر. لكنهم عرفوا بحكم موقعهم بين الشرق والغرب أن تبوءهم سيادة العالم يمر ببلاد الشام وشمال العراق، وأن مدخلهم إلى ذلك الفضاء كان دوماً حلب. لذلك كانوا أول من دمر حلب (يماض).

وكان تغلغل الغزاة الحثيين عبر جبال طوروس جنوباً قد ألهب الحس القومي العروبي في مصر، كما تجلى في معركة قادش على ضفة نهر العاصي في سورية، في أيار عام 1274 ق. م. لكنْ، بالنسبة لمصر، كان شمال سورية والعراق دوماً خط الدفاع الأول، وهي خط الدفاع الثاني. ومن يجتازهما يصلها. أما في شمال بلاد الشام والعراق، فإن التهاون في مسألة الهوية عندنا، فما برح يعني، منذ آلاف السنين، شيئاً واحداً: الخضوع للسلطة الحاكمة في شبه هضبة الأناضول والاحتواء ديموغرافياً، لا الاحتلال فحسب. فهامش الخطأ المتاح عندنا هنا هو صفر.

يعيش المواطن السوري اليوم أزمات معيشية كبرى. ورب قائلٍ إن الحديث عن التاريخ القديم هو نوعٌ من التهويم الذي لا جدوى منه الآن. لكنْ، صبراً. لأن ما نتحدث عنه هنا هو المحو والإلغاء، أي مسألة الوجود والبقاء. ومن يضيع هذا في مشكلة جرة الغاز وليتر البنزين وربطة الخبز، فمن المؤكد أن هذه السطور ليست موجهة إليه، مع المودة والاحترام.

حل الرومان محل الأقوام المندرسة في شبه هضبة الأناضول. وانقسمت الإمبراطورية الرومانية وأصبحت الهضبة قاعدة البيزنطيين. واحتل البيزنطيون سورية أكثر من ألف عام، بين 331 ق. م. و640 ميلادي، ولم تتحول لغة بلاد الشام إلى اليونانية، ولم يتمكن الرومان أو البيزنطيون من فرض النمط الهيليني أو الغربي على سورية. وبعد ألف عام، تعاملت بلاد الشام مع الفتح العربي الإسلامي كحركة تحرير، ولو كان أهل بلاد الشام غرباء حضارياً ولغوياً وثقافياً عن العرب، لما اندمجوا فيهم بمثل هذا اليسر والسرعة، ولمَ تحولت دمشق إلى قاعدة الخلافة الأموية، كدولة عربية حققت شروط دولة الوحدة القومية العربية بأي معيار، وبالرغم من أي تحفظات هنا أو هناك.

في القرن الحادي عشر ميلادي، أسس السلاجقة الأتراك دولة لهم في شبه هضبة الأناضول. وهم غزاة مستعمرون مستوطنون طارئون على الهضبة لا علاقة لهم بالحثيين أو بغيرهم من الأقوام القديمة التي قطنت هناك. المفارقة أن خطوة السلجوقي “ألب أرسلان” الأولى بعد تأسيس دولته كانت التوجه لمحاربة الفاطميين في مصر، عبر سورية. ولولا خيانة البيزنطيين له، لكانت تلك حملته الأولى، لا محاربة البيزنطيين. فموقع الهضبة يقتضي من الوجهة الجغرافية-السياسية تأمين الشرق والجنوب من أجل تشكيل الاحتياطي الاستراتيجي للتوجه غرباً.

الجديد هو أن السلاجقة رفعوا راية الإسلام. لكن مشروعهم، ومشروع العثمانيين من بعدهم، بقي قومياً طورانياً، كما تشهد عملية تتريك المنطقة، ومحاولة إحداث اختراقات ديموغرافية في بلاد الشام، من القوقاز والأقوام التركية عموماً، على مدى قرون، ما نزال نعيش معها حتى اليوم.

وسواءٌ تحدثنا عن الحثيين الوثنيين، أم البيزنطيين المسيحيين، أم السلاجقة ثم العثمانيين المسلمين، فإن قيم المعادلة الجغرافية-السياسية قد تتغير، أما المعادلة ذاتها فتبقى سعي قوم شبه هضبة الأناضول لغزونا ومحونا عسكرياً وثقافياً، وكان ما يحركهم دوماً هو الحس القومي، في الحالات الثلاث، والغطرسة الشوفينية، وعنجهية الغزو، ووطأة الجغرافيا السياسية، كتلة أكبر، غريبة، تحاول أن تتمدد على كتلة أصغر. لكنْ، تمكّنَ قوم شبه هضبة الأناضول، في الحالة الثالثة فقط، من تحقيق اختراق عميق في وعينا القومي العربي وفي هويتنا يسمح للطوراني أن يكون طورانياً، وأن يطغى علينا بصفته تلك، بذريعة التأسلم، فيما تصبح عروبتنا نوعاً من “الكفر” بعرف المستلبين عثمانياً، أما طورانيته، فـ”حلال”!

سورية، بالذات، لم تملك يوماً أن تحافظ على سيادتها واستقلالها الوطني، في وجه الكتلة الجغرافية-السياسية الماثل ظلُها من الشمال، إلا باستدعاء الاحتياطي الاستراتيجي العربي من عمق الجزيرة العربية ووادي النيل والمغرب العربي. وما برحت، حتى اليوم، لا تستطيع أن تواجه، بفعالية وكفاءة، ضراوة الخطر العثماني الجديد، أو الصهيوني، أو التكفيري، إلا باستدعاء الحس القومي العربي.

سورية، بالذات، لم تملك أن تواجه الحثيين إلا بالعراقيين والمصريين، ولم تملك أن تواجه ألف عام من الاحتلال الروماني ثم البيزنطي إلا بالفتح العربي الإسلامي من عمق الجزيرة العربية وأبعد، ولم تملك أن تواجه العثمانيين في العصر الحديث إلا بإذكاء جذوة الحس القومي العربي من المحيط إلى الخليج، منذ القرن التاسع عشر.

التراخي في مسألة عروبة سورية للحظة يعني احتلالها، جغرافياً وثقافياً، عبر شبه هضبة الأناضول، حتى لو كان القادم هو الفرنجة أو الصهاينة، لكنهم جميعاً سلكوا الطريق ذاته من الغرب، ومن شمال الغرب. الفرق هو أن الغربي والصهيوني لا يستطيع إلا أن يظهر كاحتلال، أما القومي الطوراني، عضو حلف الناتو، وأكبر مطبع مع العدو الصهيوني في المنطقة، فيتقنع بالتأسلم، ولذلك فإنه يحتل العقل والوجدان قبل الأرض، مع العلم أن عبد الحميد الثاني هو من تأسست ركائز “إسرائيل” في عهده. ولذلك فإن خطورة الخطاب العثماني أكبر، لأنه أقدر على الاختراق أيديولوجياً.

ليس غريباً، بالتالي، أن تكون بلاد الشام، شمالها تحديداً، مصنع الفكر القومي العربي في التاريخ الحديث. ولو أخذنا أبرز مئة مفكر قومي عربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي، سنجد أن أكثر من نصفهم، على الأقل، من بلاد الشام.

القصة هنا قصة وجود، لا توجد سورية غير عربية. إما سورية العربية، وإما لا سورية. وهذا ليس موجهاً للجنة الدستورية فحسب، بل هو قانون جغرافي-سياسي ثبتت مفاعليه عبر آلاف السنين: عروبة سورية شرط استقلالها.

على الهامش نقول: من لديه ميوعة في الموقف من المشروع العثماني، فإنه يمكن أن يزعم أي شيء عن نفسه، إلا أنه وطنيٌ سوريٌ أو قوميٌ عربيٌ.