الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

دارة للسّادة النبلاء..!

حسن حميد 

بلى، كنتُ، ولم أزل، أطالب بأن تصير لشهدائنا البررة دارة في كل مدينة من بلادنا العزيزة، ذلك لأننا، وكيفما تلفّتنا، نرى وجوه الأجداد والآباء والأبناء الذين أعطوا الوطن ذوب أرواحهم، ومضوا، كي تظلّ رايتنا العزيزة خفّاقة أبداً، وكي يظلّ تاريخنا، كما كان، دنيا علوقاً بالمجد والعزّة الآبدة.

ها هو الوقت الذي يخصُّ الشهداء يفترش حياتنا كلّها بالمعاني الثقال، والنورانية التّامة، ها هو  يتجلّى أمامنا كتاباً حافلاً بالأحداث والحادثات، فيحفظ القيم السّامية، والمواقف العظيمة، والأخبار المترادفة، والسير المدهشة التي صارت روايتها تبعث على الفخر والاعتزاز في لحظة وآن.

ها هو الوقت الثمين يتجلّى وقد خلّد أرواح الشهداء الذين عُلقوا على أعواد المشانق في دمشق وبيروت بأوامر من السفاح جمال باشا، لأنهم وعوا أن لا مهادنة ولا هوان مع المحتل العثماني الذي ظلّ يكذب طوال أربعة قرون بأنه هو حامي العقيدة، والأرض، والقيم، وهو في الواقع، لم يكن سوى محتل رخيص نهب الخصيب من أعمار شبابنا، والخصيب من حقولنا، والخصيب من عمراننا، والخصيب من ثقافتنا!.

وها هو وقت الشهداء يتجلّى أيضاً حين نواقف أرواح أبطال البرلمان في 29 أيار، لقد وعى هؤلاء الآباء الشهداء في السادس من أيار، وجلّهم من النخب الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن أهل الجاه والمكانة والرفعة الوطنية، أن خلاص البلاد بأبنائها، لا بالمحتلّ الذي طوّق وأسر كلَّ شيء، من القرى إلى المدن، ومن الحقول إلى المدارس، ومن البر إلى البحر.. بالجهل والظلموت!.

لقد وعوا أن المحتل العثماني لا يفتتح مدرسة، ولا يقيم عمراناً، ولا يحفظ تراثاً، ولا يستثمر إلا بما يفيده، لقد فقّر الأرض بنهبها، وفقّر القرى والمدن حين أخذ منها أهل الحذق والمعرفة، وفقّر الحياة حين استلّ منها فرح الناس، وأمات البهجة حين تركها غروباً دامياً، وأمات الأمل حين جعل حبل انتظار الأمهات لأبنائهن أبداً لا ينتهي!.

لأن الآباء الشهداء وعوا هذا أعدمهم!.

ولأنهم شخّصوا المحتل البغيض أعدمهم!.

ولأن شهداء حامية البرلمان، رفضوا المحتل الفرنسي البغيض، ورفضوا أن يؤدّوا التحيّة  لرايته.. أعدمهم!.

هؤلاء الآباء، لكلّ واحد منهم قصة، ولكلّ واحد منهم حياة وأحلام، فهلّا سعينا إلى تقصي أخبارهم واحداً واحداً، وسيرهم واحداً واحداً، من أجل الوقوف على أحلامهم، لكي نضيف، وفي كلّ مرّة، جديدة لسيرهم الوطنية، ولكي نكشف عن طرق التواصل فيما بينهم في تلك الأيام، وقد مرّت السنوات وكرّت، ليكون كلّ واحد منهم بادياً في كتاب يجهر بمواقفهم النبيلة، وبسيرهم آنذاك، وهم يتخفون بعيداً عن الأعين الراصدة، والألسن الواشية!.

وأن تكون هذه الكتب، عن كلّ واحد منهم، في دارة السّادة الشهداء، في كلّ مدينة، وجامعة، ومؤسّسة ثقافية أو اجتماعية، لأن هؤلاء الآباء الذين أعدمهم العثماني السّفاح، هم الذين تقفاهم الشهيد البطل يوسف العظمة وهو يواجه موجةً جديدةً من ظلموت المحتل الفرنسي في العشرية الثانية من القرن العشرين المنصرم!.

وهم أيضاً الآباء الأماجد، شهداء حامية البرلمان، الذين تقفاهم شهداؤنا البررة طوال سيرة بهّارة من العطاء والإيثار، وعيناها في استشهاد البطل جول جمّال أيام العدوان الثلاثي على مصر، مثلما وعيناها ونحن نحتفي بشهداء معارك تل الفخار، وتل العزيزيات، وتل الفرس، والحاصل العسكري، وجليبينة، والدردارة، والبطيحة، وكفر حارب، وسكوفيا، ونعران، والسنابر، والكمرك، وبانياس، والعوينات، وعين السمسم، ونقيب،.. ليظلّ هؤلاء الآباء كتباً تُقرأ، ودروباً يمشيها الهاتفون: بلادي، بلادي، وليظلّ الوطن قمراً عالياً.. بنوره الأتمّ.

Hasanhamid55@yahoo.com