الافتتاحيةصحيفة البعث

على هامش المؤتمرات الحزبية

بسام هاشم

مع انتهاء المؤتمرات الحزبية السنوية وترقب القادمة، تبدو الفرصة مناسبة لمقاربة مسألة دور وحضور «البعث» داخلياً وقومياً وعالمياً، خاصة وأن سورية تخرج من الحرب جريحة، حقاً، ولكن بروح ومعنويات وقامة المنتصر، وأنها دشنت بصمودها وتضحياتها بزوغ نظام عالمي جديد كانت من رواده. ولكننا إذ نتحدث عن نهاية الحرب، فإننا نتحدث أيضاً عن قرب حرب كونية ثالثة قد تكون الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية، ما يتطلب الاستعداد لاتخاذ خطوات جذرية، وإحداث تغيير منهجي وعميق في صلب تفكيرنا وممارستنا الاستراتيجية. وصحيح أن الحرب تبقى ظاهرة طارئة، وخارجة عن السياق، في تاريخ سورية الحديثة، إلا أنها تجربة ينبغي أن تشكل، بعيداً عن نتائجها وتكلفتها الاقتصادية، المصهر الذي يعيد تشكيل تطلعاتنا واحتياجاتنا وأمننا لعقود قادمة.. إنها التجربة «الجلجلة» التي لا ينبغي أبداً أن نكف عن التمعن فيها، واستخلاص دروسها، طالما أننا حملة «الرسالة الخالدة».

بداية، لابد من الاعتراف بأن تغيرات جذرية ألمت بالبنية الطبقية والمجتمعية للحزب، وأنها تغيرات تأتت من سرعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية وشمولية التنمية، على امتداد العقود الماضية. وهنا، يبدو الاكتفاء بالحديث عن حزب العمال والفلاحين والكادحين والمثقفين الثوريين ضرباً من النوستالجيا والماضوية، ونوعاً من مصادرة أدوار وتواريخ لعبت دوراً لا يمكن إغفاله أو إنكاره، حتى في «سورية البعثية». ولقد أفسحت ظروف العقوبات والحصار، الممتدة منذ أكثر من أربعين عاماً، لظهور شرائح لا يستهان بها من الرأسمال المحلي، وكان لها دورها في بناء الاقتصاد الوطني، وأياديها في أكثر من محطة أو مرحلة؛ ومن الطبيعي، في ظروف ما بعد الحرب، وفي إطار استكمال بناء المشروع الوطني، أن يكون هؤلاء في جسم «البعث»، لأنهم جزء من أمته. وكما بنت الرأسمالية الأوربية أممها، تبلورت الوطنية السورية في لهيب الصراع مع الأجنبي، وفي مقارعة التدخلات الخارجية، وكان الرأسمال الوطني في خندق المواجهة السياسية والاقتصادية.

وبالمقابل، يمكن الإدعاء بأن جسماً وازناً من الحزب يضم اليوم جمهرة من موظفين كباراً اندغموا عميقاً في السلطة التنفيذية، وأن شريحة لا بأس بها منهم باتت ترى نفسها نوعاً من تكنوقراط «عابر للسياسة»، يتطلع لـ «الانعتاق» من كل حيثية حزبية أو إيديولوجية، لأسباب «ثقافية»، وبعد أن توفرت له إمكانية تحقيق طموحاته الشخصية. وتكنوقراط، على هذه الشاكلة، قد لا يكون على تضاد أو تناقض مع فكر الحزب، وإنما يقف موقف المتعالي من أجهزته ومؤسساته. وقد يمارس، أحياناً، نوعاً من «المقاطعة الصامتة» للحياة الحزبية، مفترضاً مسبقاً أن الدولة باتت تسير وفق قوانينها وميكانيزماتها الذاتية الدفع والحيادية، وبفائض من «عبقريته» الشخصية، انطلاقاً من تهيؤات مفادها أن سورية دخلت فعلياً حقبة «ما بعد البعث»، لأسباب مختلفة، قد لا يكون أهمها تقهقر السرديات الكبرى، وتراجع التنظيمات الحزبية، واضمحلال السياسة، وهيمنة النزعة الفردية.

 يمكن، في هذا الإطار، توسيع الدائرة لتطال علاقة الحزب بالسلطة التنفيذية، فقد تم إلغاء المادة الثامنة حقاً، وكان ذلك بمثابة خطوة من لدن الحزب نفسه، ومن شعوره بالقوة الكافية. ولكن الحزب، عملياً، وبعد عشر سنوات على الإلغاء، لم يستطع أن يجسد حقيقة أنه «الحزب الحاكم»، كما لم تتصرف الحكومة على امتداد الوقت على أنها «حكومة الأغلبية»، لينتهي الأمر بأن يتحمل الحزب أوزار وأخطاء الحكومات المتتالية في سياساتها الإجرائية.

على مستوى مؤسساتي آخر، فإن الحزب، الذي اضطر باستمرار لتحمل عثرات حكومات كان يفترض أنها تعكس خياراته الاقتصادية والاجتماعية، شكّلا سوية «الحزب والحكومات»، وعلى العكس، نوعاً من العبء الإضافي على مؤسسة الرئاسة، حينما تفحص نفسه، بداية الحرب، فلم يجد سوى بنية تنظيمية متهالكة كان الأجدى مراجعتها منذ وقت طويل، وقدرة حشد ليست بالمستوى المتوقع، وثقافة إعداد، كلاسيكية ومدرسية، عفا عليها الزمن، ولم تجد ما تطور به كوادرها، بين موقف وموقف، وبين محطة وأخرى، إلا خطابات وكلمات الرفيق الأمين العام للحزب.. رئيس الجمهورية.

إن مجمل هذه التحديات تجعل من الضروري إعادة النظر بمفهوم جمهور (جماهير) الحزب، وقاعدته التنظيمية، أو بالأصح توسيعها أو التدقيق فيها في ضوء التطورات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة، والمهام التي يضعها الحزب لنفسه خلال الفترة القادمة، خاصة وأن الحرب اقتاتت، في جانب منها، على ترويجات وتهويمات مجتمعية بالية وشريرة ومتخلفة. والمقصود هنا، بالضبط، الحاجة إلى تعزيز مشاعر الاعتداد الوطني، لا سيما بين الأجيال الجديدة، من خلال العودة إلى تراث الأجداد، قادة الاستقلال والثورة السورية ومن ثم معركة الجلاء، والتي ضمت، جنباً إلى جنب، كلاً من الرأسمالية الوطنية والإقطاع المعادي للهيمنة الأجنبية، والمثقفين الوطنيين، وأبناء الأرياف والمدن؛ على أن تبقى محفورة في الذاكرة، بالطبع، المرحلة الذهبية التي تجسدت، في الحركة التصحيحية، وحرب تشرين التحريرية، والدور القومي في لبنان ودعم القضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية، والحضور السياسي العربي والإقليمي والعالمي، كمحطات تاريخية بارزة في صياغة رؤية السوريين لأنفسهم ولدولتهم ولدورهم، إذ لا يمكن صياغة هوية وطنية دون تاريخ شخصي ومجتمعي، ودون انتصارات مشتركة، تماماً كما لا يمكن بناء هوية بالاستناد إلى ضعف أو خسارة أو هزيمة جماعية.

وعلى صعيد العلاقة مع الجمهور، من المهم ألا يتحول الدور الاجتماعي للحزب الى الخدمية، فأي دور بهذا المعنى له محدوديته، ولا يمكن لأي حزب مجاراته إلى النهاية. والأهم هو تكريس الروح التطوعية، ومشاعر الانتماء، وإذكاء شعلة الجماعية بالتضاد مع مظاهر الفردية والأنانية والانتهازية والتفكك الأسري والتطرف التي لطالما أمدّت البيئات الحاملة لمشروع الحرب بالقدرة على التحرك، وسهلت لها التواطؤ مع الخارج، وزينت لها الخيانة والعمالة والتبعية.

إن الاعتراف بالحقائق التي أفرزها الواقع الموضوعي كان دائماً من صلب عمل وتفكير الحزب، ومحركاً أساسياً لتوجهاته، وأحد نقاط قوته التي مكنته من العبور في خضم المتغيرات العاتية، دون أن يعني ذاك انفلاشاً أو سيولة إيديولوجية. وبهذا المعنى، وبهذا الأفق، يغدو تسليح الحزب بجدول أعمال تاريخي ينطلق من التحديات الراهنة، واستيعاب الحقائق الجديدة، و»تصحيح» علاقته بذاته و»تاريخه»، المهمة الملحة في الوقت الراهن، فسورية لا تزال تحتاج إليه لأنه ضميرها، وضمير عروبتها وحامل رسالتها الخالدة.