دراساتصحيفة البعث

قراءة في كتاب “اسمه جورج فلويد”

قسم الدراسات والترجمة

لا يعرفُ العالم عن جورج فلويد سوى مشهد مقتله الشهير، ومن هذه العبارة عمل الصحفيان روبرت صامويلز، وتولوز أولورونيبا من صحيفة “واشنطن بوست” على تدوين سيرة فلويد الذي أصبح رمزاً عالمياً، بعد أن أثار مقتله، في 25 أيار 2020، ردود فعل في مختلف أنحاء العالم، ودفع أمريكا إلى إعادة النظر في مواقفها تجاه العرق والعدالة.

يحكي الكتاب الذي صدر في أيار الماضي بعنوان (اسمه جورج فلويد) سيرة حياة فلويد، كما يتناول مواضيع تتعلّق بالدولة ومؤسّساتها. ويكشف كيف شكلت العنصرية المنهجية حياة جورج فلويد وإرثه -من جذور عائلته في حقول التبغ في ولاية كارولينا الشمالية، إلى عدم المساواة المستمرة في الإسكان والتعليم والرعاية الصحية والعدالة الجنائية والشرطة– وكيف أدّت قصته والتجربة المأساوية لرجل واحد إلى حركة عالمية من أجل التغيير!.

يسلّط الكتاب الضوء على أنه من الضروري معرفة “فلويد أمريكا” كونها صورة تمسّ الحاجة إليها، وكيف تحوّلت قصته إلى سرد تاريخي للصحوة العرقية التي أثارها موته الوحشي والمفاجئ، خاصةً وأن أحداث ذلك اليوم أصبحت مألوفة بشكل مأساوي، وتحديداً في 25 أيار 2020 حين أصبح جورج فلويد آخر شخص أسود يموت خارج متجر مينيابوليس على يد الضابط الأبيض ديريك شوفين.

لقد أطلق تسجيل الفيديو الخاص بوفاته أكبر حركة احتجاجية في تاريخ الولايات المتحدة، حيث أيقظ الملايين على انتشار الظلم العنصري. ولكن قبل فترة طويلة من رسم وجهه على عدد لا يُحصى من اللوحات الجدارية، وأصبح اسمه مرادفاً للحقوق المدنية، كان فلويد أباً وشريكاً ورياضياً وصديقاً يسعى دائماً من أجل حياة أفضل.

من خلال وضع روايته في سياق الإرث الدائم للعنصرية المؤسسيّة في البلاد، يفحص هذا الكتاب بعمق جذور عائلة فلويد في العبودية والمشاركة في الحقول، والفصل العنصري في مدارسه، والاستيلاء على مجتمعه وسط موجة من الاعتقال الجماعي، والتجاهل القاسي نحو صراعه مع الإدمان، بحيث وضع عدم المساواة المجتمعية في مصطلحات إنسانية فريدة. وبالاعتماد على مئات المقابلات مع أقرب أصدقاء فلويد وعائلته، ومعلميه بالمدرسة الابتدائية ومدرّبيه في المدارس الابتدائية، ورموز الحقوق المدنية، وأولئك الذين هم في أعلى مقاعد السلطة السياسية، قدم مراسلا “واشنطن بوست” روبرت صامويلز وتولوز أولورونيبا استكشافاً مؤثراً ومؤثراً لجورج فلويد أمريكا، يكشف كيف أن الرجل الذي أراد أن يتنفس ببساطة انتهى به الأمر إلى العالم الآخر.

إن اللحظات الأكثر حيوية في الكتاب لا تأتي بعد وفاة فلويد، ولكن في سرده الحميمي وغير المتجسّد والدقيق لحياته، وصورة كاشفة ببراعة عن هياكل الفقر وسرقة الأراضي والعنصرية التي شكلت ليس فقط فلويد، ولكن أيضاً شبكات القرابة في الجنوب.

تتشابك تفاصيل السيرة الذاتية مع الرسومات التخطيطية الثاقبة للأحداث السياسية والتاريخية التي شكّلت حياة عائلة فلويد والأمريكيين السود الآخرين. ولهذا السبب يتميّز الكتاب بأنه متعدّد الأوجه، وغنيّ بالمعلومات بشكل استثنائي، بمعنى هو شهادة مؤثرة لفلويد ولائحة اتهام مدمّرة لعدم المساواة العرقية في أمريكا.

لقد حرّر المؤلفان فلويد من عالم الأيقونات، وبذلك يكون الكتاب تأريخاً واقعياً، واتهاماً لاذعاً لفشل هذا البلد المستمر في القضاء على العنصرية المنظمة، حيث يقدّم الكتاب نظرة من وراء الكواليس على الرجل وأحبائه ومجتمعه، وعواقب وفاته المروعة.

والكتاب، بما يحمله، بات صورة حيّة وضرورية لرجل أسود في أمريكا بكل فوارقها الدقيقة ومآسيها وامتلائها، بحيث يعيد هذا الكتاب الاستثنائي للحياة، بتفاصيل مذكورة بدقة، السياق الذي لا غنى عنه للعنصرية النظامية التي عاش فيها الرجل الأسود.

في هذا العمل، كشف الكاتبان عن هوية جورج فلويد في الحياة، وأن موته ليس فقط نتيجة الخيارات القاسية لشرطي واحد، ولكن لأربعمائة عام من المجتمع وسط جائحة مستعرة، وأسئلة ملحة حول الديمقراطية الأمريكية، بحيث توفر صفحات هذا الكتاب تلك الفرصة التي طال انتظارها.

“اسمه جورج فلويد” جزء من تأبين، وجزء مرثاة يجبر القارئ في الوقت نفسه على مواجهة حقيقة مشبعة بالحزن وبعناصر أمل يرفض الكثيرون في الأمة قبولها. هذا الكتاب هو إنجاز للكتابة الحيّة والتقارير العميقة، من الطريقة التي يقود بها القارئ خلال اليوم المصيري الأخير لجورج فلويد على الأرض إلى وصفه المتقن لآمال وإحباطات فلويد في السياق الأكبر للعرق في أمريكا.

“اسمه جورج فلويد” سرد رصين وحميم للغاية لحياة رجل من غير لون، وكلّ ما كان عليه أن يحمله ويتعامل معه كرجل أسود بلغ سن الرشد في أمريكا. وفي إنجاز رائع من إعداد التقارير، ساعد الكاتبان في التعرف على فلويد على أنه إنسان كامل وغنيّ ومعقد، ولعلّ قتله ورحلته في الحياة تجبر كلّ قارئ على إدراك الحقيقة التي لا جدال فيها، وهي أن العرق لا يزال مهماً للغاية في هذه الدولة!.