دراساتصحيفة البعث

فنلندا تكرر الخطأ التاريخي نفسه!

علي اليوسف

وكأنّ فنلندا تكرّر الخطأ التاريخي نفسه مع روسيا الجار الجغرافي بحكم الواقع، ففي عام 1918 بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت فنلندا في حرب أهلية بين الجيش الأبيض والجيش الأحمر، وباتت تبحث عن فضاء جغرافي جديد بعد انهيار القيصرية الروسية. كان الجيش الأحمر يأمل بضمّ البلاد إلى الفضاء السوفييتي السابق، لكن الجيش الأبيض حصد الثمار نتيجة الدعم الألماني، ليتمكّن الجنرال السابق في جيش القيصرية الروسية، كارل غوستاف مانرهايم، من إحكام السيطرة على فنلندا، وليكون بعد عشرين عاماً على موعد جديد في مواجهة ثانية مع الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية.

في 23 آب 1939 تمّ توقيع “معاهدة عدم الاعتداء” في موسكو بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي، أو ما يُعرف باسم اتفاق مولوتوف- ريبنتروب (بين وزير الخارجية الألماني ريبنتروب ونظيره السوفييتي مولوتوف)، لكن على الرغم من توقيع الاتفاقية كان ستالين قلقاً من أي تحرك ألماني مفاجئ ينقض كلّ المعاهدات، وهو ما حدث بالفعل ابتداءً من نقض “معاهدة فرساي” وصولاً إلى نقض اتفاق مولوتوف- ريبنتروب.

كان ستالين يركّز في تعاطيه مع ألمانيا النازية على نظريتي “الإجراء الميداني الاضطراري”، و”الانتقام التاريخي”. كانت النظرية الأولى ترتكز على الإجراء السريع والخاطف لتأمين العمق الاستراتيجي اللازم ضد تمدّد الألمان، أما النظرية الثانية فهي الانتقام من معاهدة “بريست ليتوفسك” التي قرّرت روسيا فيها الاستغناء عن مساحات واسعة من أراضيها في سبيل الخروج من الحرب العالمية الأولى بسلام، والتفرّغ لبناء الدولة الجديدة.

ومع اندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية، لم تقدّر فنلندا الضرورة الاستراتيجية بالنسبة لموسكو، ولم تقدّم المساحات الكافية لانتشار الجيش الأحمر، ما اضطر ستالين إلى إعلان ما يعرف بـ”حرب الشتاء” ضد فنلندا، للسيطرة على بحيرة لادوغا وغابات كاريليا. وعلى الرغم من أن الفنلنديين واجهوا الجيش الأحمر -تفجير الدبابات بالمولوتوف، وقطع الاتصال بين الوحدات العسكرية الكبيرة- إلا أن النتيجة في نهاية الأمر كانت ما طلبه السوفييت في السيطرة على الأراضي التي أمّنت عمقاً استراتيجياً.

في المرحلة الثالثة من عملية “بارباروسا” للقوات النازية، تحالفت القوات الفنلندية مع القوات النازية ضد الاتحاد السوفييتي، مع أن الشريط الجغرافي التاريخي “إستونيا– لاتفيا– لتوانيا– فنلندا” كان الخاصرة التي دخلت منها القوات النازية إلى عمق روسيا، إلا أن النتيجة النهائية للحرب كانت بمرور القوات السوفييتية من الأراضي نفسها، ولكن باتجاه برلين. وحينها أدركت فنلندا الخطأ التاريخي الذي ارتكبته في اللحظة التي رُفع فيها العلم السوفييتي على مبنى الرايخستاغ.

اليوم، تمتلك فنلندا خيارات متعدّدة بدلاً من المواجهة، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يطلب من فنلندا أكثر من التزام الحياد وعدم الانخراط في التحالفات المعادية، على عكس ستالين الذي اجتاح فنلندا. ورغم ذلك، تمضي حكومة فنلندا في تكرار الخطأ التاريخي نفسه، وتراهن على الضمانات الأمنية للناتو، في ظلّ بيئة أمنية متغيّرة تمنح فنلندا فرصاً مغرية أكثر من الانضمام إلى الحلف المعادي لروسيا.