اقتصادصحيفة البعث

كيلا تكون أرض ملح..!!    

علي بلال قاسم  

للوهلة الأولى يوحي زمن الزحف إلى المدن، والذي عانى منه الملف التنموي السوري ولم يزل كغيره من البلدان، بأن فردوساً اقتصادياً ينتظر جيوش الشباب الزاحفين باتجاه بقع الأحلام المتمدنة والجاهزة لتزويد كل قادم بما لم تستطع تقديمه جغرافيا الأرياف المترامية والتي صورتها الهجرات الداخلية على أنها مجرد أرض ملح طاردة لساكنيها ومنفرة لطموحات الباحثين عن الفرص المعلبة في المدن الرئيسية والمحافظات المركزية.

في البحث عن ورائيات اللهاث إلى المدن ثمة خطايا تتحمل السياسات والخطط التنموية العرجاء الجزء الأعظمي منها، فعبر تاريخ وعقود ارتكبت مع صانعيها “السبعة وذمتها” لإخراج الريف السوري من الحسابات الواقعية والتنفيذية، مع التنويه بأن هناك في الحكومة من هو جاهز ومستنفر لدحض كلامنا بأن حصة الريف كبيرة جداً والدليل أكداس الأوراق والدراسات التي لن تغني أبناء الريف من جوع وترد عنهم البرد.

أما المتهم الثاني فهو مجتمع الريف نفسه، والذي نال منه الكسل درجة جعلته غير مستعد للاستثمار في موارده الأهم وهي الزراعة وملحقاتها وما يدور في فلكها من فرص وبيئة جاهزة لتشغيل شرائح الشباب التي انحسر نظرها وانحبست بصيرتها عن اكتشاف خامات تفتح الباب لمشروعات استثمارية قوامها المساحات الخصبة والمواد الخام الجاهزة، والتي يمكن أن تساهم في تشكيل مشروعات لا بأس أن تبدأ من الصفر.

هذا حال أعظم الشركات العالمية والدليل ما رمى إليه الشهير، بيل غيتس، والذي قال يوماً “ليس عيباً أن تولد فقيراً ولكن مسؤوليتك أن تموت كذلك”، وما الفرص التي نتكلم عنها إلا كان الريف ركناً أساسياً في تأمينها، حيث تعتمد صناعة وتجارة وخدمات المدن على ما تنتجه الأرياف كمواد أولية.

المتحول الجديد اليوم أن هناك يقظة بدأت تتسلل لنفوس الكثيرين مفادها الهجرة المضادة بعدما ضاقت المدن ذرعاً ولم تعد تتسع لكل ذاك الطوفان البشري بالتوازي مع انحسار دور الدولة “كأم وأب” في التشغيل وتفريخ الفرص الوظيفية والتي لم تنتج إلا الكسل والخمول، وبالتالي التعمشق بعباءة تدر الأجور والرواتب بعمل وبدون عمل، والأهم من ذلك سيلان اللعاب لمغريات الفساد والرشوة والكسب غير المشروع، والذي تتيحه بعض المفاصل الوظيفية الحكومية تحت أغطية يضمنها القانون المحاسبي الهش، ويكفلها المجتمع الحاضن بعاداته وثقافته القائمة على التبرير الأعمى، وتوطين قاعدة “سرقة الدولة حلال” المخربة.

كلنا يدرك ويلمس حجم التأفف والدلال الذي يصيب الشباب الذي ما زال مصراً على الوظيفة الحكومية، في وقت يمكنه أن يصنع مشروعاً ويصبح رب عمل وصاحب مؤسسة يشغل لديه العمال، ليفرض السؤال نفسه: هل ننتبه لفداحة ما ارتكبناه بحق ريفنا الغني ونعيد النظر بالهجرة الداخلية لتكون معاكسة لما هو تقليدي، لأن في قرانا ما يستحق الاستثمار بوجود مصادر تمويل محدثة تعددت أشكالها وبواباتها، والباقي مسؤولية الحكومة وخططها التي يجب أن تستهدف إخراج الريف من نسيان أصحاب القرار.