ثقافةصحيفة البعث

دلالة المعنى وجمال القول

لم تغادر الشاعرة أميمة إبراهيم (وهي التي كتبت للأطفال “كيف صارت الأحلام حكايا”، “أسرار الأم والقمر”، “على جناح قوس قزح”، “غيمة وأغنية”، “لسنا صغاراً”) طفولتها حين اختارت عنوان “طفلة ومدينة ونشيد” لمجموعتها الشعرية الموجّهة للكبار والتي تقول فيها: “طفلة أنا، والعيد فستان مزركش بالأماني، وأزقة تنشر طعم المحلب وتعبق الشمرة في أقراص عجنتها الجارات بالودّ، وأرجوحة تعلو تعلو وتنطلق”، وهي المجموعة التي احتفى بها مؤخراً المركز الثقافي العربي في أبو رمانة بمشاركة الشاعرين قحطان بيرقدار ومحمد الحفري وحضور الشاعرة أميمة إبراهيم التي بيّنت لـ “البعث” أنها في هذه المجموعة التي كتبتها بين عامي 2019 و2020، حاولت أن توثق محبتها لمدينتين – دمشق وحمص – سكنتا داخلها وبدأتها بإهداء إلى دمشق: “أنا حين أشرق بالدمع وأضجّ بالصمت هل تعلمين يا دمشق ما في الروح من وجع، وكيف إلى دروبك القديمة أهتدي”، مبينة أنها كانت تهرب من الوجع والقهر وكل ما يقلق ذاتها المتعبة في حمص باتجاه دمشق لأنها رغم كل ما نالته من ألم كانت تبقى موئلاً للفرح وتعطيها بعض التوازن الروحي، مشيرة إلى أن الفرق بين مجموعتها “طفلة ونشيد ومدينة” ومجموعاتها السابقة هو أن المجموعات السابقة غلبت عليها القضايا الوجدانية الخاصة، لكن هنا حاولت الانتقال من الحالات الخاصة إلى العموميات وهي التي ترفض أن تكتب عن الحرب بطريقة مباشرة رغم أنها فقدت أخاً لها فيها، مبينة أنها تراوغ بكل معنى الكلمة في حال أرادت أن تتحدث عن الحرب لأن الشعر لا يتحمّل المباشرة الفجة، وقد بدا هذا واضحاً في بعض النصوص التي وردتْ في المجموعة التي تضمّ ومضات وقصائد نثرية، منوهة بأنها تكتب قصيدة التفعيلة وقصيدة العمود التي تعتمدها في حال كتبت للأطفال، لكنها في قصائد الكبار تحديداً تميل إلى قصيدة النثر التي تنقلها إلى عوالم مدهشة من الصور. كما رأت إبراهيم أن المشهد الشعري هذه الأيام يضمّ مجموعة من الشباب الذين يتمتعون بشاعرية عالية جداً وثقافة واسعة، وهي مع إعطاء الفرص لمن هم أصغر سناً ورعايتهم والتواصل معهم بشكل دائم لأنهم هم الذين سيشكلون بذرة الإبداع القادمة والأدباء الذين سيحملون وينهضون باسم الشعر في القادم من الأيام، ولهذا فإن المطلوب برأيها تقديم المساعدة والرعاية لهم، مع إشارتها إلى حالة النرجسية التي يتمتّع بها بعضهم والتي تؤثر كثيراً على مستقبله الشعري، لكن بالعموم فإن المشهد الشعري برأيها غير محبط على الإطلاق، وهناك مواهب جيدة جداً، والدليل ما نراه في المسابقات الثقافية التي يقيمها اتحاد الكتّاب العرب ووزارة الثقافة أو أي مكان آخر خاص، دون أن تخفي أن عدداً من الشعراء يهربون باتجاه القصّ والحكاية لأن الحكاية وسيلة للفرح أكثر من القصيدة التي لا تستطيع برأيها أن تؤرخ للحرب بالطريقة التي يؤرّخ بها في القص أو الرواية.

وختمت إبراهيم كلامها بأنها بصدد التحضير لمجموعة شعريّة للكبار ومجموعة من النصوص السرديّة التي لا تنتمي إلى القص ولا تنتمي إلى الشعر، فهي عابرة للأجناس، ولديها مشروع للأطفال متعلّق باستخدام الميثيولوجيا والأساطير وتحويلها إلى قصص للأطفال.

أنزفُ وجعي وأبكي

ورأى الشاعر محمد الحفري أن أميمة إبراهيم من كتّاب الأمل وصانعيه، وهي تشتغل في بعض نصوصها الشعرية على طريقة الحكاية التي تجيّرها وتسخّرها لمصلحة الشعر، وكذلك على تبديل الأفعال المرتبطة بالأسئلة، ساعيةً بذلك إلى تحسين نصّها: “أنزفُ وجعي وأبكي، هل سنعود وتعود ويعود البلد؟” وفي مكانٍ آخر تقول: “هل حدّثتك الغيوم عن سرّ ترحالها، وذكرتك الشمس آن غروبها؟”. وأوضح الحفري أنه وعلى الرغم من وقوع بعض نصوص هذه المجموعة في معمعة الحرب والواقعية كما في نص “نداء الحياة”، إلا أن الكاتبة برأيه تجاوزت ذلك في الكثير من نصوصها الأخرى التي تحمل طعمَ العسل والسكّر ورائحة الهيل ونبع الماء وذاك الحمام الدافق الذي تحمله بين جنباتها، منها “كوكب العطاء” الذي ترى فيه والدتها من أجمل الصبايا، و”حكايات حبّ وشوق” الذي تحاول أن تصل من خلاله إلى المعنى الحقيقي للحب، وكذلك كانت فيه شعاع الضوء ودار الرحمة، وفي نصوص أخرى اشتغلت، كما أشار الحفري، على المونولوج الداخلي الذي تنقسم فيه إلى نصفين أو أكثر كما في نص “أنت وأنا والنداء” أو نص “لي ما ليس لظلّي” الذي تتقاسمُ فيه مع ظلّها كلّ شيء، أو كنص “مشمش الغواية” الذي تتحدّى فيه الطرف المقابل بكلمة لو كنتُ، معلناً استغرابه لأن الكاتبة التي تحمل الطفولة في قلبها ولا ترى في الدرب الوعر سوى الجمال المُعَبَّد بالخيالات التي تطيّرنا معها وهي تماشي الطريق تسلُّل بعض الكلمات القاسية إلى مجموعتها الجديدة مثل “مشلولة كلماتنا” و”خراب الروح كبير” و”الوطن عاجز” و”مذبوحون من الوريد إلى الوريد” و”مخنوقون برمل الفظاعات”، مؤكداً في الوقت ذاته أن مجموعة “طفلة ومدينة ونشيد” يمكن أن تستوقفنا طويلاً لما تحويه من دلالة المعنى وجمال القول الذي لم يغفل عن أهمية البناء وزخرفته ونهوضه نحو احتمال أكثر من قراءة ورأي، وتلك من سمات النصوص المُرتجلة في عالم الأدب.

قصيدة نثر طازجة

ووجد الشاعر قحطان بيرقدار أن المجموعة فرصة جميلة للوقوف على قصيدة نثر طازجة ولافتة لمدارك قارئها وأحاسيسه، فيها تكثيفٌ عالٍ وتطويعٌ للغة، وانسيابية وسلاسة، وتصوير فني، ولقطات سريعة مؤثرة، وجرسٌ موسيقي، وتوهج في الشعور والعاطفة، ومضامين لافتة، وكل ذلك بدا واضحاً في المجموعة برأيه ومعبّراً عن قصيدة نثر حيّة نابضة في غالبية عناصرها المعروفة، حيث تغوص الشاعرة في أعماق ذاتها، فتتبدى لنا رؤى وأفكار ومشاعر، وإن كان شطرٌ كبير من المضامين المطروحة في المجموعة، برأي بيرقدار، غير ذاتي كما يبدو للوهلة الأولى، إلا أن الشاعرة تسكب عليه من روحها ووجدانها، فيغدو أكثر تأثيراً في القارئ، فكان الحبيب حاضراً بقوة في المجموعة عبر قصائد متوهجة ونابضة بالحياة، تثير في القلب كثيراً من اللواعج: “وكنتُ إذا ما مرّ في خاطري ظلّه التمعت في يقيني شهبٌ ونيازك”، أما المحور الآخر البارز أيضاً في المجموعة برأي بيرقدار فهو ما يتّصل بالحرب التي شُنَّت على سورية خلال السنوات الماضية والآثار التي تركتها في نفس الشاعرة والأسى الذي عاشته وهي ترى الوطن يعيش هذه الحرب المدمّرة: “اختطفَ غولُ الحرب، أبجديّتي، عنها ألوبُ باحثةً، تندهني الحروف، لا أراها”، وفي هذا السياق تحضر دمشق القديمة أيضاً موضوعاً شعرياً بامتياز: “إن في دمشق القديمة بقايا من فرح فحسب، ومقام الغياب حزين، وما زالَ باب توما يقارعُ بالعشق، أحزانَه، والانتظارُ ما زال، رهينَ محابسِ العدم”.

وختم بيرقدار مؤكداً أن الكاتبة كانت موفّقة في هذه المجموعة التي تحتاج إلى دراسة نقديّة متأنيّة، لأن ما أتى فيها كان أقرب إلى التوصيف العام.

أمينة عباس