الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

استعادة ورعشة

عبد الكريم النّاعم

صديق عزيز، روائي ومحام، ومثقّف، أسعدتْني الظروف بأن أتعرّف عليه من جديد، وفي أول لقاء لنا، ذكّرني بأنه يعرف بيتنا يوم كان غرفتين من “اللِّبْن”، وقد جاء ليأخذ مناشير يوزّعها باسم “الحزب”، يوم كان تنظيمه سريّاً، أيام الانفصال.. هذا الصديق يزوّدني بين فترة وأخرى بمجموعة من الكتب التي يختارها، وهو صاحب مكتبة “دار الرواية”، وفي إحدى زياراته أحضر لي، فيما أحضر، مجموعة مجلّدة من أعداد مجلّة “الثقافة” التي صدرت عام 1958، واستمرّت طويلا بعدها.

قبل أن أفتحها، قلت ماذا سأجد في هذه المجلّة وأنا أعرفها جيداً، ونشرت فيها أكثر من مرّة، وربطتني بصاحبها المرحوم مدحة عكاش علاقة صداقة، ولكنّني ما أن بدأت بالأعداد الأولى حتى شدّتني المواضيع الجادة والعميقة التي تضمّنتْها، وسأكتفي بسرد بعض الأسماء، لأنّ سردها كلّها يحتاج لمساحة واسعة (زكي الأرسوزي، د. عبد الكريم اليافي، صدقي إسماعيل، د. عبد السلام العجيلي، نديم محمد، حامد حسن، د. إبراهيم الكيلاني، د. عفيف بهنسي، د. عادل العوّا، د. جودت الرّكابي، جورج طرابيشي، غسان كنفاني، إلخ..)، وتوقّفت قليلاً مع هذه الأسماء الهامة التي أرست دعائم ثقافة قوميّة تقدميّة، ليبرالية، تنويريّة، وكانت حيويّة فاعليّتها مع مطالع زمن استقلال سوريّة وفي زمن الوحدة بين دمشق والقاهرة، وفيما تلى ذلك من أزمنة، وكانت أسّست ثقافتها وجدارتها عبر المُزاوَجة بين التراث، و.. ما أفرزتْه تلك الأزمنة من ثقافة الغرب، وثقافة المنظومة الاشتراكية آنذاك، ووقفتْ بحزم ووعي ضدّ الثقافة الظلاميّة المبنيّة على ادعاء احتكار الحقيقة الاسلاميّة!!

أتساءل الآن كم عدد الذين يعرفون هذه الأسماء اللاّمعة من أبناء الأجيال المعاصرة؟!!

هذه الفجوة التي لا تُردم أنتجتْ أجيالاً، تزعم أنّها تنتسب إلى عوالم الأدب، أجيالاً يغلب عليها أنّها بلا جذور، وأنتم تعلمون أنّ النباتات التي لا جذور لها سوف تقتلعها أية هبّة ريح قويّة.

نحن، كما أرى، قياساً على ما ذكرنا، أمام أجيال “تدّعي” أنّها تحرث في أرض الفكر والأدب، وربّما انتبج بعضها و”زعم” أنّهم أجيال بلا آباء،!! ومَن ليس له آباء فهو كما يُقال لقيط، وبظنّي أن اللقطاء قد تكاثروا، وآزرهم في ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي بمجّانيةِ، وسطحيّة حضورها تخلق وهْما، يغذّي تلك النتاجات الفجّة، الفطيرة، والتي تحتاج إلى كثير من النّار لتنضج، وستظهر هذه الآثار في قادم الأيام.

أشير هنا إلى أنّ النّشر في ذلك الزمن في المجلاّت كان مجانيّاً، يكتفي الكاتب بنشر مادّته، معتبراً ذلك إنجازاً، ولستُ أدعو إلى استمرار هذا فكلّنا يعرف أحوال الأدباء الماديّة عل امتداد هذا الوطن، ولم يعرف الكتّاب معنى الاستكتاب إلاّ بعد ثورة الثامن من آذار 1963، وأذكر، إنّ لم تحنّي الذاكرة أنّ أوّل من ابتدأه مجلّة “جيش الشعب”،

بالمقارنة، يُلاحظ الآن غياب مصطلحات الرأسماليّة، والبورجوازيّة، والاشتراكية، والبروليتاريا، حتى لكأنّ زلزالا ما قد سحبها من التّداول، وهذا ربّما احتاج إلى وقفة للمراجعة، لإدراك الأسباب والنّواتج.

ملاحظة أخرى، وهي أنّ ما كان يحدث على الساحة العربيّة كان يجد صدى حضوره شعراً وأدباً، وكانت ثورة الجزائر أيامها في ذروة مواجهتها للاستعمار الفرنسي، وكان لها حضورها الخاص، بينما الآن نرى ما يحدث لأهلنا في فلسطين يوميّاً، وما هو بقليل، ونكاد نشكو فقر حضوره، وهذا أيضاً يحتاج لوقفة طويلة وعميقة وواسعة لإدراك سرّ هذا التغيّر، وهو تغيّر جذريّ له دلالاته الوطنيّة والقوميّة، والاجتماعيّة.

الصديق الروائي المتميّز عبد الغني ملّوك، شكرا لك على إثارة هذه الاستعادة برعشاتها المُحْزِنة..

aaalnaem@gmail.com