ثقافةصحيفة البعث

ديوان “نِثار الغَريب” للشاعر د.حسّان أحمد قمحية

صدر حديثاً ديوان (نِثار الغَريب) للشاعر د. حسّان أحمد قمحية، ويقع فـي 203 صفحات من القطع الـمتوسّط، ويضمّ 148 عنواناً ما بين قصيدة ومقطّعة ونُتْفة (بيت واحد). وقد جاءت أبيات الديوان على أوزان الشعر العمودي، وتعدّدت القافية فـي بعض القصائد ما بين مقطوعةٍ وأخرى منها، وفيه بضع قصائد على شعر التفعيلة.

استهلّ صاحبُ الديوان هذه الـمجموعةَ الشعريّة بحديث مطوّل عن الاغتراب وأثره فـي إثراء التجربة الشعريّة، والإتيان بصور جديدة، فقال:

“من الـمفترَض أن يَسْتَنهضَ الاغترابُ رؤى جديدة عند الأديب والشاعر، فإن لم يتأثَّر الكاتبُ بالثقافة الجديدة التي ينطوي عليه الـمكانُ أو الوطن الجديد أو الأفق الـمستجدّ، وبقيَ فـي مَعْزِلٍ عن أدبائه وكتَّابه، وثقافته وأفكاره، فلا أقلَّ من أنَّ تُثِير حالةُ الغربة نفسها نوازعَ خافية وأفكاراً كامنة عندَ الكاتب على أقلّ تقدير. والشاعرُ – على سبيل الـمثال – هو ابنُ محيطه، وابنُ الحالة الانفعاليَّة التي يُقذَف فيها أو تُفرَض عليه، وإلَّا لـما كان شاعراً. وهل هناك أكثر من تبعاتِ الغربة والبعد والحنين والشَّوْق عواملُ مهمَّة تؤثِّر فـي الكاتب والشاعر، فتولِّد لديهما نزعةَ الكتابة والرغبة بالتعبير عن خَوالِج النفس الفائضة ومشاعرها الـمتأجِّجة!؟ ولذلك، فالاغترابُ يأتـي بأمرين كَفيلين بتحفيز الكاتب واستثارة ميوله نحوَ الكتابة الـمختلفة: الأوَّل حالةُ الغربة وما تنطوي عليه من انبعاثِ الذكريَات وما يصاحبها من الاشتِياق والحنين، والثانـي الـمحيطُ الجديد وما يكتنفه من ثقافةٍ وأفكار وأجواء لم تكن فـي الوطن الأصلي للكاتب أو الأديب”.

ليس هناك عنوان واحد للقصائد، ولكن تجمعها سنواتٌ من الغربة تخلّلتها تباريحُ الحنين والشوق إلى الوطن والأهل والأصحاب، ذلك الوطن الذي يسكن فـي القلوب قبل العقول. وكيف لا يأسى الشاعر على أرضه ودياره وقد رأى تلك السنواتِ العجاف تعيثُ فيه أسى وحزنًا:

سأَبْكي – إِنْ بَكيتُ – على بِلادي    على وَطَنٍ تَوشَّحَ بالسَّوادِ

على الأَحْلامِ ذابَتْ مِثْلَ مِلْحٍ            وضاعَتْ تحتَ أَكْوامِ الرَّمادِ

على الأَشْيَاخِ فـي نِيرانِ حَرْبٍ      على أمٍّ .. على طِفْلٍ يُنادِي

على أَرْضِ الشَّآمِ وقد أُذيقَتْ          مِنَ الخذْلانِ ما أَدْمَى فُؤادِي                     

وهل أثقلُ على النفس من أن تُرى مراتعُ الصبا ومواطن الذكريات وقد خيّم عليها الظلام فأشبعها من عتمته وسقاها من سوادِه:

أَظْلمَتِ الدُّنْيا يا أَبَتي فـي كُلِّ مَكانْ

وتَبدَّلَ لِلعُرْفِ الـمَعْنى، وطَغَى الإنسانُ

فالضَّوْءُ السَّاطِعُ يا أَبَتي كَرْهٌ ومُهانُ

وخُدُودُ الشَّامِ تَداوَلُـها جُنْدُ الشَّيْطانْ

******

طَوَّفتُ العَالَـمَ يَحْدُونـي قَلْبي الـمَخْدُوعْ

وطَرَقْتُ البابَ على أَهْلـي، فَدَهانـي الجُوعْ

يا أَبَتي لَوْ أَنَّكَ تُبْصِـرُ حُلُمَ الـمَوْجُوعْ

النَّفْسُ اشْتاقَتْ، يا أَبَتي، لسَـريرِ هُجُوعْ

ورغم كلّ ما ناب الوطن من أوجاع وآلام يبقى الحنينُ إليه وارفًا صارخاً:

يا لَيالـي خُطَّ هَـمِّي

فـي تَضاعيفِ الجَبينِ

طالَ بُعْدِي عَنْ دِيَارِي

صارَ وِزْرًا مِنْ سِنينِ

لَـمْلِمِي شَوْقي فإنِّـي

مُثْقَلٌ، يا لِلْحَنينِ!

وهذا تساؤلُ العاشِق لبلده، الـمغرم به، الحزين على فراقه:

يا أَيُّها القَلْبُ الـمُحَمَّلُ بالأَسَى

هَلْ تَكْتُمُ العَيْنُ الذي حُـمِّلْتَهُ؟

كَيْفَ الرُّبُوعُ تَرَكْتَها وهَجَرْتَها؟

قُلْ لـي إذًا: أَوَجَدْتَ ما ضَيَّعْتَهُ؟

وكيف لا يكون ذلك، والشام حضنٌ دافئ يأوي إليه الحيارى والتائهون:

أُحبُّك مِلْءَ أَحْلامِي

وأَحْلامِي بِلا شَاطِئْ

وأَهْوَاك بِلا حَدٍّ

وقَلْبَي للهَوَى ظَامِئْ

إذا ضَيَّعْتُ عِنْوانـي

فحُضْنُك مَوْطِنِي الدَّافِئ

لقد أنشبت تلك الأيّام العصيبة أنيابَها فـي معيشة الناس، فأذاقتهم الـمرارة والضنى، فعلى لسان مثقلٍ بالهموم أقول:

على ظَهْري تَراكَمَ هَمُّ عُمْري   فكَيْفَ يُعينُني فـي العَيْشِ ظَهْري؟

وكَيْفَ أُعارِكُ الأيّامَ وَحْدي           وفـي أَعْبائِها أَوْجَعْتُ صَدْري

 وأمامَ لوحةٍ نازفة يقف أحدُنا مشدوهاً يعتصر قلبَه الألم على رجل شائخ تعركه السنون، وامرأة ثكلى أضنتها الفاقة والحاجة، وطفل بائس يتيم أضاع الطريق:

هَذا الطَّريقُ كَئيبٌ، ما لَهُ آخِرْ

إِنـِّي أَرَى فـي خُطاهُ كَسْـرَةَ الخاطِرْ

هَلْ فـي شُقُوقِ الثَّرى أَوْزارُ مَلْحَمَةٍ؟

أَمْ دَمْعَةٌ نَفَرَتْ مِنْ طَعْنَةِ الغادِرْ

أَمْ نَوْحُ ثَكْلَى تَخالُ الأَرْضَ ظالـمَةً

مِنْ بَعْدِ أَنْ فَقْدَتْ، فـي عَيْشِها، النَّاصِرْ

ويعتب صاحبُ الديوان على ما لاقاه أهل الشام من خذلان أخوتهم فـي العروبة والدين:

يا خَيْمَةً شَهِدَتْ خُذْلانَ أُمَّتِنا        وُعُودُها زَبَدٌ ما بَعْدَهُ زَبَدُ

رَصيدُنا عِنْدَ إِخْوانٍ لَنا عَدَمٌ           ومِنْهمُ مَنْ يُنادينا: أَنِ اقْتَصِدوا

ماذا لدَيْنا لكَي يَبْقَى لِوَارثِهِ          إلَّا البُكاءُ وعَيْشٌ كُلُّهُ نَكَدُ

عارٌ علَيْنا إذا بِتْنا على فُرُشٍ         وابنُ الشَّآمِ بِعاري الأَرْضِ يَلْتَحِدُ

خَيْباتُ ظنِّي تِلالٌ لا حُدودَ لها كأنَّما فـي سَبيلِ الخِزْيِ نَتَّحدُ

وفـي الديوان مناجاة وتأمّل:

أَنا مُذنِبٌ والعَفْوُ مِنْكَ مُؤَمَّلُ  كيفَ السَّبيلُ إلى رِضائكَ يَحْصلُ؟

أَفَكلَّما نادَيْتَني وغَفرْتَ لـي      عاوَدْتُ ذَنْبِي شارِدًا لا أَعْقِلُ؟

لكنَّ لـي بجميلِ قَوْلكَ مَخْرَجًا:     إنّي قَريبٌ يا عِبادي فاسْأَلُوا

وفيه حديث مع النفس:

كَبُرْتُ وما عادَ لـي شَغَفُ   بِما اتَّفقَ الناسُ واخْتَلَفُوا

وصارَ لِرُوحي طُمَأْنِينَةٌ     بمِحْرابِها بِتُّ أَعْتَكِفُ

وصادَقْتُ أَسْفارَ مَكْتَبَتي   فَلِـي فـي أَحاديثِها شَرَفُ

أَبُثُّ خَواطِرَ نَفْسـي لها    وتَمْنَحُني دِفْئَها الصُّحُفُ

إلى غَيْرِ هذا الخَنا أَنْتَمي   وحِبْرِي على غيرِه يَكِفُ

سَبِيلـي أَخُطُّ بَيارِقَهُ    وخارِطَتي لِلعُلا هَدَفُ

ولكن، بقدر ما فـي الديوان من مشاعر الألـم والحزن، هناك دعوة إلى البسمة والأمل والتفاؤل، فهو مزيجٌ من هذا وذاك:

يا ناثِرَ البَسماتِ عندَ لِقائِنا            هَلَّا حَضَـرْتَ فَجَمْعُنا يَتَأَلَّـمُ

يَقْتاتُ مِنْ وَجَعِ النُّفوسِ حَديثُنا       وكأنَّ إِتْيَانَ السُّـرورِ مُـحَرَّمُ

ضَمِّدْ جِراحَ العُمْرِ قبلَ فَواتِهِ        إِنْ يَبْقَ هذا الجُرْحُ كَيْفَ سَنَحْلُمُ؟

يضمّ الديوان من الشعر ما يدعو إلى العطاء والبذل، والرأفة بالـمحتاجين والاحتفاء بهم:

أَلَدَيْكَ دِفءٌ تَصْطفِيه مِنْ بَرْدِ الفُتورْ؟

وتعود فـي أفيائهِ كالطيرِ فـي عشٍّ قريرْ؟

يَهبُ الحياةَ على رَغْمِ الظّما ريًّا كثيرْ

فيُرَى شجيُّ القلبِ مِنْ فرحٍ يَطيرْ

هذا نِثارٌ ممّا ضمّه الديوان، وفيه شيءٌ من النسيب والـمناجاة وحبّ الوطن والدعوة إلى الخير … إلخ.

عبدالحكيم مرزوق