الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

منجم حاضر.. بغناه!

حسن حميد

دائماً، وفي كلّ سنة، أسأل نفسي سؤالاً اعتدته واعتادته، وهو: هل من جديد يُذكر حول الأديب غسان كنفاني، وأين تكمن هذه الجدّة، وكيف نقدّمها للقارئ الذي لم يعرف شيئاً، أو عرف القليل، عن غسان كنفاني سيرةً ونصاً؟!.

الحق، إن غسان كنفاني ظاهرة أدبية استثنائية عرفتها مدوّنة الإبداع الأدبي الفلسطيني، ليس لثرائها وكثرة جمالياتها فحسب، وإنما لأنها الظاهرة المدرسة التي يتعلّم فيها كلّ من يدخل إليها، معاني الإخلاص والحذق لعشقٍ لازمَ غسان كنفاني منذ أن تفتّح وعيه الوطني، وهو لم يزل طالباً في المدرسة المتوسطة والمدرسة الثانوية! فلا شيء في عقل غسان كنفاني، ولا في سيرته الذاتية، ولا في مؤلفاته سوى فلسطين شعباً وقضية وحلماً، لقد صنع من أوراق أكياس الإسمنت المهملة، أكياساً صغيرة باعها لأصحاب الحوانيت في منطقة الزبداني (ريف دمشق) من أجل أن يشتري بها أقلاماً ودفاتر وأطباق كرتون كي يكتب بها، وفوقها، ويرسم عليها، وكي يشتري قصص مكسيم غوركي ورواياته ذات الثمن المتواضع جداً، لقد رسم، وكتب، وقرأ، وحاور أترابه، ومن بعد طلابه الحوارات المترادفة في الطول والسعة حول المكان الفلسطيني، وحول العادات والتقاليد، والتراث الفلسطيني عموماً، لقد أقام أول معرض للتراث الفلسطيني في المدرسة التي كان يدّرس طلابها علوم الفنون، حين طلب منهم أن يأتوا بكلّ ما يمثل التراث الفلسطيني، من الملعقة إلى الطبق، إلى طاحونة البن، إلى دلاء النحاس، إلى الصحون والقدور والصواني، إلى العُقل والحطات والقنابيز، إلى ثياب النساء المطرزة، وإلى مناديل رؤوسهن المقصّبة، وإلى مراود الكحل والمكاحل، وأساور النحاس والفضة، وجنادات الرصاص..، وقد زار المعرض طلاب مدارس كثيرة، وكتب هو عن المعرض وصوّره ونشر ما كتبه في صحف دمشق كي تتجلّى صورة فلسطين.

وفاز بجائزة مهمّة للقصة القصيرة في الكويت، وهو في عتبات العشرين من عمره، كي تقول الصحف إن الفائز بالجائزة كاتب فلسطيني يعيش في المنفى، وانتسب إلى حركة القوميين العرب كيما تكون الأيدي العربية يداً واحدة في قوتها من أجل استعادة فلسطين، وكتب القصص التي تتحدث عن الفدائي الذي يغوّر في عتمات الليل سارياً بكلّ الهمة والعزيمة من أجل فلسطين، وكتب الروايات التي تمجّد المخيم الفلسطيني الذي استنبت الفدائي، والسياسي، والفنان، والمهندس، والطبيب، والشاعر، والقائد.. في أرض أراد الأعداء لها أن تظلّ أراضي قحل وموات، وكتب النصوص الأدبية التي تحدّد الطرق الصحيحة الذاهبة إلى فلسطين، وقال “لا” للطرق الآثمة التي تدير ظهرها لفلسطين، ومنها الطرق الباحثة عن الرفاه، والمال، والنسيان، وعمل في الصحافة اللبنانية، ليس في صحيفة واحدة فحسب، بل في صحف عدة، وفي آن واحد، كي يبشّر بزمن الفدائيين، طلّاب الحقّ والأرض، والعزّة، والشهادة، وراح يحتفي بكل اسم أدبي يبرعم في البلاد الفلسطينية، ولاسيما في البلدات والقرى والمدن الجليلية، بعدما فرض عليهم العدو الإسرائيلي لغته في المدارس، فقال عنهم: إنهم فدائيو الإبداع، وحماة التاريخ، والأرض، واللغة.

ولأن الزمن الذي عاش فيه غسان كنفاني كان زمناً عجولاً لهوثاً، أعني زمن منتصف الستينيات إلى لحظة استشهاده، فإن ما كتبه ونشره غسان كنفاني من أدب (على اختلاف أجناسه) كان فورة عظيمة تعبّر بوضوح عن عظمة موهبته الأدبية في زمن عرف نوابغ الأدب العربي الحديث، ولعلّ ما تركه من نصوص إبداعية، في الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، وهي لم تكتمل، تقول بوضوح إن غسان كنفاني كان يعرف جيداً أن الزمن لن يعطيه الكثير من الوقت!.

غسان كنفاني منجم محتشد بالجمال والحذق والوطنية والوعي والإبداع المضيء، وهذا ما يجعلنا، وفي كلّ عام نكتشف في أدبه وسيرته ما يدهش ويغني حقاً!.

Hasanhamid55@yahoo.com