ثقافةصحيفة البعث

الموسوعي حنا عبود في ندوة تكريمية

يشكل الناقد والمترجم والأديب السوري حنا عبود ظاهرة ثقافية مهمّة تستحق الدراسة وتسليط الضوء عليها، لما قدمه من مؤلفات متنوعة وغنية رفدت المكتبة العربية بترجمات ودراسات شملت مناحي متعدّدة من الأدب والفكر، وتكريم هذه القامة الموسوعية هو تكريم للفكر ككل حتى ولو لم يأتِ هذا التكريم من مؤسسات ثقافية حكومية فإنه يبقى تكريماً للقارئ والمفكر على حدّ سواء.

ومن هذا المنطلق جاءت الندوة التي أقامها اتحاد الكتّاب العرب تكريماً لهذا المثقف الموسوعي في قاعة سامي الدروبي بالمركز الثقافي العربي بحمص، أمس الثلاثاء، وشارك فيها نخبة من الأدباء والنقاد الذين أضاؤوا على تجربة عبود الغنية، وفي مقدمتهم الكاتب والمخرج المسرحي فرحان بلبل الذي تناول سيرته ورفقته الطويلة مع الأديب المكرم التي امتدت لحوالي خمسين عاماً وقراءته للعديد من كتبه التي تناولت ميادين متعدّدة كان في كلّ منها أصيلاً ومدهشاً، ومنها كتابه “من حديث الفاجعة” الذي ينتقي فيه من شخصيات المسرح العالمي تلك التي نسميها “محدثي النعمة”، هذا الانتقاء الذي جعل بلبل – كما قال – يعيد قراءة مسرحيات بدا وكأنه يقرأها للمرة الأولى، واكتشف أن هذا الكتاب ضروري لكلّ من يعمل في المسرح كاتباً وممثلاً لأنه يتيح للمخرج والممثل والكاتب مقارنة شخصيات المسرحية التي يعمل عليها مع تلك الشخصيات التي تناولها حنا عبود في كتابه. وفي كتاب “من تاريخ الرواية” يقدّم للقارئ ملخصاً وافياً موثقاً عن تاريخ هذا النوع الأدبي الذي يعدّ اليوم من أكثر الأنواع الأدبية انتشاراً وتجديداً. كما فتنني بأسلوبه في ترجمة الملحمتين اليونانيتين الإلياذة والأوديسة في مجلدين كبيرين بدأهما بمقدمة وافية تضع القارئ في أجوائها ويشرح له دواعيها.

كما قدم الشاعر غسان لافي طعمة مداخلة قرأ فيها حنا عبود كناقد في فترة زمنية امتدت لستة عقود، فكان نقده ثمرة ناضجة من ثمار فكر موسوعي بدأ مع مؤلفه الأول “مسرح الدوائر المغلقة”، امتداداً إلى “المدرسة الواقعية في النقد الأدبي الحديث” إلى كتاب “النحل البري والعسل المر” الدراسة الأميز للشعر السوري المعاصر التي أثارت إعجاب شعراء الحداثة في سورية وخارجها، ثم كانت دراسته المتميزة للظاهرة الحداثوية في كتابه “النول والمخمل”، كما فاجأ الكثيرين في كتابه “القصيدة والجسد” الذي وظف فيه علم الأحياء وعلم النفس في توضيح عملية خلق القصيدة.

ويرى طعمة في نقد عبود أنه يؤسّس لحالات ثقافية معنية بما هو جوهري وعميق، ويؤسّس لنظريات في النقد، وهذا ما ظهر من خلال كتابه “الحداثة عبر التاريخ” الذي تحدث فيه عن حداثتين زراعية وصناعية، وكتابه “علم الاقتصاد الأدبي” الذي يقف فيه في مواجهة علم الاقتصاد السياسي، وتابع في كتابه “من حديث الفاجعة” الذي بيّن فيه دور محدثي النعمة في تخريب الحضارة من عهد الإغريق إلى يومنا هذا.

الواضح أن عبود نظم الثقافة العربية وتمثلها، وهضم الثقافة الغربية والشرقية وتمثلها أيضاً، لذلك فهو يقدم ثقافة مأخوذة من مصادرها الأولى فشكّل نقده حالة ثقافية خاصة، شمل نقداً للطبيعة، وحياة الإنسان وتطلعاته ولمواضع العطب التي تصيبه أو تنتظره، فكان الناقد الأكثر تأثيراً في المشهد الأدبي في سورية.

الناقد سعد الدين كليب تحدث عن الوعي النقدي عند عبود الذي حدّده بعدد من السمات منها الموسوعي، والكلي والمنهجي والجمالي، خصائص أربع مغلفة كلها بالسمة الجدلية، فهو يمتلك إحاطة شاملة لمادة البحث، والموثوقية العلمية والوضوح المنهجي والتنوع. والكلية هي أن تجد الروابط والعلائق بين الجزئيات فتكون ظاهرة من تلك الجزئيات، هذا الأمر يحتاج إلى وعي فلسفي أتقنه عبود، والمنهجية بمعناها العلمي والنقدي، العلمي الضروري لكلّ باحث في العلوم الإنسانية والتطبيقية، والنقدية أن يتبع الناقد منهجاً نقدياً محدداً كان عبود من أوائل من اشتغل عليه بعد أن كان النقد انطباعياً ذواقاً، أصبح مع جيل حنا عبود يحلّل النص بطرائق وأدوات علمية من جهة ومتراتبة من جهة أخرى، لكي نعي النص وفق آلياته الداخلية، كان ينتقل من منهج إلى آخر، وكان أبرزها المنهج الواقعي الماركسي، والاشتغال على الانثربولوجيا. والسمة الجمالية في وعي عبود النقدي تتمثل في كيفية وعي الأشياء والظواهر من منظور جمالي بريء من الأيديولوجيا.

تخلّل الندوة مشاركة شعرية للشاعر المغترب حسان الجودي تلتها بالنيابة الشاعرة أميمة إبراهيم رئيسة فرع حمص لاتحاد الكتّاب العرب، تناولت القصيدة وصفاً جمالياً لحياة الأديب المكرم وتحليلاً انثربولوجياً لفكره وأعماله.

واختتم الندوة الضيف المكرّم حنا عبود الذي أثنى على ما قدّمه المشاركون من إطراء ومديح وإظهار للجانب المضيء من صورته دون التطرق إلى عيوبه ومنها محاربته للمذهب البريختي في المسرح -كما قال- وسعيه الحثيث لدفع الراحل سعد الله ونوس وفرحان بلبل الابتعاد عن هذا المذهب الذي كان يعتبره موضة زائلة.

آصف إبراهيم