دراساتصحيفة البعث

مصدر الأزمة المالية العالمية القادمة

ترجمة: عناية ناصر

لم يكن أحد يظنّ أن العالم يمكن أن يتلقى العديد من الضربات بينما يكافح الاقتصاد العالمي للتعافي من كارثة كوفيد-19. بعد التعرّض لسلسلة من الصدمات المتتالية من نقص لسلسلة التوريد العالمية، وحرب أوكرانيا، وأزمة التضخم، والشروط النقدية الصارمة، فلا عجب أن يعتقد المتشائمون أن الأمور قد تتجه نحو ركود آخر.

القلق الآن هو أن تلك المؤسّسات المكلفة بحماية الاستقرار المالي العالمي -الحكومات والبنوك المركزية- يمكن أن تكون مسؤولة عن الحدث الائتماني الكبير التالي الذي يعوق الانتعاش العالمي لسنوات، إذ لا يزال العالم يحمل الكثير من آثار الأزمة المالية عام 2008 التي تركت الاقتصاد العالمي ضعيفاً، والاستقرار المالي في خطر.

خلفت سنوات التحفيز النقدي والمالي الفائقة إرثاً من المشكلات التي تكافح الحكومات والبنوك المركزية العالمية لحلها، فقد جلب تأثير سياسة مواجهة التضخم الكثير منذ انهيار عام 2008 وأثناء أزمة  كوفيد-19 مجموعة كاملة من المخاطر المحتملة ليس أقلها أسعار الفائدة العالمية المنخفضة للغاية، وعوائد السندات التي لا تعكس المخاطر الائتمانية المتزايدة من الحكومات التي تصدر الكثير من الديون، والبنوك المركزية التي تطبع الكثير من الأموال الرخيصة.

إن التحدي الذي يواجه البنوك المركزية هو جعل معدلات الفائدة طبيعية، بينما تحاول في الوقت نفسه تقليص ميزانياتها المتضخمة، وتفريغ مخزونات الفائض من الديون الحكومية المتراكمة في إطار برامج التيسير الكمي. قد يؤدي التراجع عن التيسير الكمي إلى تفاقم الرياح الاقتصادية العالمية المعاكسة من خلال زيادة تكاليف الاقتراض للمستهلكين والشركات والحكومات في أسوأ لحظة ممكنة، ونظراً لتحول مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من وضع التيسير الفائق إلى وضع التضييق الحاد، فقد تضاعفت عائدات سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات أكثر من الضعف منذ بداية العام لتصل إلى أعلى مستوى لها مؤخراً عند 3.5 في المائة.

وبالنظر إلى المعدل الذي تكون فيه معنويات سوق السندات الأمريكية غير مقيدة، فإن العودة إلى عوائد سندات الخزانة قبل عام 2008 التي تزيد عن 5 في المائة قد تكون مطروحة قريباً. على سبيل المثال، أدى ارتفاع عائدات السندات الأمريكية إلى وصول معدلات الرهن العقاري الأمريكية إلى مستويات لم تشهدها منذ عدة سنوات، مما أضرّ بالقدرة على تحمّل التكاليف للمشترين لأول مرة، وتباطؤ مبيعات المنازل، وألقى بظلاله على ثقة المستهلك.

ومع بلوغ تضخم أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة 8.6 في المائة في أيار الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ أكثر من 40 عاماً، ليس من المستغرب أن يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي في طريقه للحرب واتخاذ موقف أكثر عدوانية بشأن تشديد أسعار الفائدة.

ومع عقد بنك الاحتياطي الفيدرالي العزم على إعطاء الأولوية للسيطرة على التضخم، فإن سوق السندات الأمريكية في ورطة، حيث تتزايد عائدات السندات الطويلة وتتسع هوامش الائتمان بوتيرة أسرع، خاصة وأن المزيد من أصول التيسير الكمي المتراكمة يتمّ التخلص منها مرة أخرى في السوق.

لقد أبقى برنامج شراء الأصول التابع لمجلس الاحتياطي الفيدرالي عوائد سندات الخزانة منخفضة على مرّ السنين، لذلك يمكن أن تتجه عائدات السندات الأمريكية إلى الاتجاه المعاكس بشكل حاد مع سعي بنك الاحتياطي الفيدرالي لتقليص ميزانيته العمومية. وبدءاً من شهر حزيران الماضي فصاعداً، التزم بنك الاحتياطي الفيدرالي بتخفيض 47.5 مليار دولار أمريكي شهرياً من أصوله.

إن تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي من مشترٍ صافٍ إلى بائعٍ صافٍ لسندات الخزانة الأمريكية، بينما يمضي قدماً في رفع أسعار الفائدة الحاد للتغلب على التضخم قد يصبح مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار العالمي، وقد يؤدي تأثير العدوى على أسعار الفائدة العالمية، وعوائد السندات، وفروق الائتمان إلى إثارة المخاوف من أن العالم قد يتجه نحو حدث ائتماني عالمي كبير آخر مماثل لانهيار عام 2008، وأزمة الديون الأوروبية التي أعقبت ذلك بين عامي 2009 و2012، وحينها نجت الأسواق الأوروبية من الانهيار الكامل من خلال تدخل البنك المركزي الأوروبي غير المسبوق، وتعهد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي في عام 2012 بفعل “كل ما يتطلبه الأمر” لإنقاذ اليورو.

يعدّ التوسّع الأخير في فارق عائد السندات لمدة 10 سنوات بين السندات الحكومية الإيطالية والألمانية أحد الأعراض المقلقة لتزايد قلق المستثمرين، فقد تكون دفاعات أوروبا فوق طاقتها، إذ تحتاج إيطاليا مع بلوغ نسبة الدين الحكومي الإيطالي -الناتج المحلي الإجمالي نحو 150 في المائة- إلى نمو اقتصادي قويّ لتحقيق الاستقرار في تعرضها للديون. كما أنه من دون استمرار أسعار الفائدة المنخفضة من البنك المركزي الأوروبي والدعم الرسمي المتواصل، يمكن أن تكون إيطاليا نقطة اشتعال لحدث ائتماني كبير آخر.