مجلة البعث الأسبوعية

بين وهم القدرة وواقع العجز.. واشنطن تحلم وأوروبا تدفع الثمن

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

تبدو الإدارة الأمريكية في تعاطيها مع روسيا الاتحادية، وخاصة خلال الحرب الأوكرانية، كمَن كان يمنّي نفسه بوهم العظمة والقدرة على إذلال هذا البلد، غير أنه صُدم بأن جميع التقارير التي قدّمتها مراكز الأبحاث والدراسات لديه حول إمكانية إدخال روسيا في مستنقع أوكرانيا أو الفخ الأوكراني، كما حاولت وسائل الإعلام الغربية تصويره، كانت قاصرة أو عاجزة عن فهم حقيقة الإمكانات التي تمتلكها روسيا في مواجهة أيّ ضغوط دولية تتعرّض لها، فقد فوجئت هذه الإدارة بالفعل بأن سيناريو الأزمة الذي صنعته بنفسها وطوّرته عبر التحريض المتواصل للرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي بأنها ستقف معه بقوة في مواجهة روسيا من جهة، وتحريض أوروبا أنها أيضاً قادرة على احتواء جميع التبعات المتعلقة بأيّ عقوبات غربية يتم فرضها على موسكو من جهة ثانية، كانت ضرباً من الوهم والخيال، حيث أثبتت الوقائع خلال العملية الخاصة التي يقوم بها الجيش الروسي في أوكرانيا، أن روسيا تمتلك من النفس الطويل في هذا الجانب ما يمكّنها من احتواء أقسى السيناريوهات التي يمكن أن تمرّ بها.

 

فشل المراهنة على استسلام روسيا

فقد راهنت الإدارة الأمريكية منذ البداية على أنها قادرة عبر هذه السياسة التي اتبعتها في التعاطي مع موسكو انطلاقاً من الأزمة الأوكرانية، على جعل روسيا تجثو على قدميها وتتحوّل إلى حمل وديع مستعدّ لتقديم جميع التنازلات الدولية لها خوفاً من الذراع الطولى لها وهي حلف شمال الأطلسي “ناتو”.

غير أن الأزمة الحالية التي يمرّ بها العالم حالياً، وخاصة الجهات التي اجترحت العقوبات ضدّ روسيا في كل من واشنطن وبروكسل، أثبتت أن حلف الناتو الذي كان يتم تصويره على أنه أكبر قوة عسكرية ضاربة في العالم، قد تحوّل إلى نمر من ورق بالفعل، بل أثبت أنه ليس بمقدوره إلا أن يحاول من بعيد عرقلة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا عبر تقديم السلاح والدعم المالي والسياسي والاستخباري، وما إلى ذلك من العناوين التي يتباهى بها الغرب في مثل هذه المناسبات، حيث لم يتمكّن إلى الآن عبر جميع أصناف الأسلحة التي قدّمها إلى النظام في كييف من إعاقة تقدّم الجيش الروسي أو منع روسيا من تحقيق أهدافها المعلنة في هذا البلد، بل على العكس تماماً قدّم أسلحته المتطوّرة هدية للجيش الروسي الذي وقعت في يده هذه الأسلحة بالمحصلة، فضلاً عن أنه منح فرصة كبيرة لروسيا للتحكم ليس فقط بأوروبا، بل بالغرب مجتمعاً، عبر تخلّيه ذاتياً عن كل الاتفاقيات المهمّة التي تربطه بروسيا وتشكّل أداة لتحقيق توازن قوة وردع مع هذا البلد الصاعد.

 

عدم الإنصات لرأي الخبراء

ورغم أن أغلب منظري السياسة الأمريكية في العالم، أمثال هنري كيسنجر، حذّر من أن الاستمرار في هذا النهج قد يؤدّي إلى نتائج عكسية تفضي بالمحصلة إلى انهيار النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بدور الرئيس، إلا أن الإدارة الأمريكية لا تزال إلى الآن تكابر في مسألة الاعتراف بأنه لا يمكن أن يستمر هذا النظام إلى الأبد، وربما قد أقرّت ضمنياً بذلك، ولكن الدولة العميقة التي تمثلها تصرّ على عدم الاعتراف بذلك، أو لنقل على القتال حتى آخر رمق تمسّكاً بهذا النظام الذي تؤكد نظرية الذروة حتمية زواله بعد بلوغه منتهاه.

هذه السياسة تحدّثت عنها السفارة الروسية في واشنطن قائلة: إن الولايات المتحدة تفضّل الانغماس في الأوهام بدلاً من الاعتراف باستحالة “إلغاء” روسيا، معيدة ذلك إلى وجود رغبة عارمة لدى السلطات في واشنطن، في إقناع المواطنين الأمريكيين بوجود مبررات للعقوبات ضد روسيا، عبر جلسة التنويم المغناطيسي للذات.

وفي بيانها، دحضت السفارة، مزاعم وزارة الخارجية الأمريكية حول “العزلة الدولية” لروسيا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ودبلوماسياً، مؤكدة أنها ليست أكثر من “محاولة لتقديم الأماني على أنها واقع”.

 

واشنطن تضع أوروبا في الواجهة

والطامة الكبرى في كل ذلك، هي أن هذه الإدارة الأمريكية لم تكتفِ بتعليل نفسها بهذه الأماني فقط، بل تجاوزت ذلك إلى إقناع أوروبا بوجهة نظرها هذه، وبأنها قادرة على التخلص من العقبة الروسية نهائياً، ما دام العداء لهذا البلد راسخاً في أدبيات الغرب منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كان هاجسهم تاريخياً منع الإمبراطورية الروسية من الصعود، وبالتالي راحوا يصوّرون كل محاولة روسية للحفاظ على الأمن القومي على أنها محاولة للاشتراك في كعكة الاستعمار التي هي حكر على الغرب.

ومن هنا أقنعت الإدارة الأمريكية الأوروبيين بأن طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يقتصر فقط على أوكرانيا، بل يتعداها إلى احتلال أوروبا بالكامل انتقاماً لهزيمة روسيا في حرب القرم أمام الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة “العثمانية والنمساوية والفرنسية والبريطانية” عام 1856، وهذا ما دفع الأوروبيين فعلياً إلى العمل على كبح جماح هذا الطموح الروسي المزعوم من خلال فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على هذا البلد، ووضع أوكرانيا رأس حربة في صراع طويل الأمد مع روسيا، ظناً منهم أنهم بذلك يستطيعون التخلص من روسيا نهائياً والاستفراد مجدّداً بالقرار في هذا العالم.

ولكن الأمور لم تسِر كما اشتهت سفن الأطلسي فيما يخص هزيمة روسيا، بل انقلب السحر على الساحر، وبدأت العقوبات المفروضة على موسكو ترتدّ على أصحابها من خلال ارتفاع معدّلات التضخم في الدول الغربية وغلاء أسعار الوقود والغذاء، الأمر الذي بات يهدّد باندلاع ثورات في هذه الدول على خلفية سوء الأوضاع الاجتماعية الذي لم يعتَد عليه المواطن الغربي الذي يتمتّع برفاهية من نوع آخر على حساب ثروات الشعوب الأخرى.

 

أوروبا كبش الفداء

ولكن الوضع الاقتصادي المزري في الدول الغربية الذي أفرزته ظروف العقوبات على روسيا، جعل الدول الغربية تعيد التفكير في آثار هذه العقوبات على اقتصاداتها، واستيقظت متأخّرة على حقيقة أن واشنطن ساقتها جميعاً إلى الانتحار الاقتصادي بعد أن فرضت بنفسها عقوبات أفضت إلى التضخم والغلاء ونقص الوقود، فضلاً عن الآثار الاجتماعية الأخرى التي بدأت تظهر على شكل سقوط حكومات غربية تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الخانقة كما حدث في بريطانيا مؤخراً، ما يعني أن الولايات المتحدة قدّمت أوروبا مجتمعة كبش فداء في سبيل تحقيق نصر استراتيجي على روسيا، ولكن روسيا صمدت في مواجهة ذلك، مقابل انهيارات دراماتيكية متوقعة للاقتصادات الأوروبية.

 

صحوة متأخرة

وأفضل مثال على أن الدول الغربية وعت متأخرة هذا السيناريو، ما صرّح به وزيرا خارجية كل من هنغاريا والنمسا قبيل اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبي الأخير حول تقديم معونات عسكرية لأوكرانيا، حيث قال وزير الخارجية الهنغاري: “إن السلام هو الحل الوحيد الذي يسمح لاحقاً بمنع وقوع ضحايا بشرية لا معنى لها وإزالة التضخم والتغلب على الغموض الكامل في مجال الطاقة وإزالة الصعوبات في مجال إمدادات الغذاء”.

أما نظيره النمساوي ألكسندر شالنبرغ، فقد صرّح بأن العقوبات الأوروبية تضرب روسيا، لكنها تضرب الاتحاد الأوروبي نفسه أيضاً، مشيراً إلى أهمية الثروات الروسية بالنسبة لأوروبا، ومتسائلاً عن البديل المطروح للغاز الروسي.

وفي النهاية، توقعت وكالة “بلومبرغ”، أن تواجه أوروبا بسبب الحر، “عواصف” في مجال الطاقة في وقت أبكر مما كان متوقعاً، وخلال ذلك لن تكون هذه المنطقة مستعدة بما فيه الكفاية للفوضى التي ستحدث، كما أن أوروبا لن تتمكن من ترميم احتياطياتها من الغاز المسال على خلفية موجة الحر قبل حلول موسم الشتاء.

ومع كل هذه المعوّقات والمعطيات التي تؤكّد استحالة هزيمة روسيا في هذه الحرب بالوكالة أمام الغرب، لا تزال بروكسل ومن خلفها واشنطن تصرّ على إطلاق النار على قدميها، رغم كل التحذيرات التي أطلقها المحللون الغربيون من تبعات الهزيمة أمام روسيا.